منذ سقوط النظام السوري في الثامن من ديسمبر
الماضي وتشكيل حكم جديد برئاسة أحمد الشرع، بدت المقاربتين الأوروبية والأمريكية
متباينتين حيال التعاطي من
سورية الجديدة: الاتحاد الأوروبي مدفوع بثقل اللاجئين
السوريين في أوروبا من جهة، وبثقل البُعد الأمني من جهة أخرى، فيما بدت الولايات
المتحدة مدفوعة بثقل الأمن الإسرائيلي.
هذا التباين ظهر أولا من خلال الوفود
الأوروبية الكثيرة إلى دمشق للقاء الشرع ومسؤولي إدارته (وزراء خارجية ألمانيا
وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا واليونان، وفد بريطاني رفيع المستوى، ممثل عن الحكومة
الهولندية)، وزيارات وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى أوروبا للقاء مسؤولين
أوروبيين.
ثم ظهر ثانيا من خلال قرار الاتحاد الأوروبي
في 24 فبراير الماضي تعليق الإجراءات التقييدية في قطاعي الطاقة، بما في ذلك النفط
والغاز والكهرباء، والنقل، ورفع خمس جهات من قائمة الجهات الخاضعة لتجميد الأموال
والموارد الاقتصادية: المصرف الصناعي، ومصرف التسليف الشعبي، ومصرف الادخار،
والمصرف الزراعي التعاوني، ومؤسسة الطيران العربية السورية.
بخلاف الاتحاد الأوروبي، فضلت إدارة ترمب
التعاطي مع سورية بشكل غير مباشر، عبر حلفائها الأوروبيين والعرب والأتراك، ولذلك
لم يحصل تواصل أمريكي ـ سوري مباشر، باستثناء زيارة باربرا ليف مساعدة وزير
الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط إلى دمشق في 20 ديسمبر الماضي، ولقاءها
الشرع ووزير الخارجية.
في هذا اللقاء اكتفت المسؤولة الأمريكية
بإعلان قرار إدارة بايدن إلغاء مكافأة مالية قدرها 10 ملايين دولار، كانت قد
رصدتها في وقت سابق للقبض على الشرع.
بخلاف الاتحاد الأوروبي، فضلت إدارة ترمب التعاطي مع سورية بشكل غير مباشر، عبر حلفائها الأوروبيين والعرب والأتراك، ولذلك لم يحصل تواصل أمريكي ـ سوري مباشر، باستثناء زيارة باربرا ليف مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط إلى دمشق في 20 ديسمبر الماضي، ولقاءها الشرع ووزير الخارجية.
ولم يمض شهر على هذا اللقاء، حتى أعلنت
إدارة بايدن إعفاء سورية من بعض القيود على عدد من الأنشطة خلال الأشهر الستة
المقبلة، لتسهيل الوصول إلى الخدمات الأساسية، وهي خطوة خجولة جدا، مقارنة بالخطوة
الأوروبية.
بدا الابتعاد الأمريكي الرسمي تجاه سورية
واضحا ومستمرا، حتى مع اللقاء الأمريكي السوري الثاني ـ الهامشي في شكله والمهم في
مضمونه ـ عندما التقت ناتاشا فرانشيسكي، نائبة مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون
الشرق الأدنى وسورية مع وزير الخارجية السورية أسعد الشيباني، على هامش مؤتمر
المانحين الدوليين الذي انعقد في بروكسل في 18 مارس الماضي، وقدمت فيه ستة شروط
أميركية لرفع العقوبات على سوريا.
يبدو الابتعاد الأمريكي، أو المسافة مع
الحكومة السورية مُبهمة وضبابية، وإن كان يمكن ردها إلى ثلاثة اعتبارات: قناعة أمريكية
بأن سورية ـ بغض النظر عن حكامها ـ لن تكون يوما من الأيام جزءا من الفلك الأمريكي،
أي لن تكون جزءا من التحالف الأمريكي، كما هو حال دول الاعتدال العربي، ولذا تجد
واشنطن نفسها غير مستعجلة للتعاطي مع السوريين في ظل نوعية الحكام الجدد، وبنفس
الوقت لا تريد انفجار الوضع في هذا البلد الهش.
كما يمكن ردها إلى تباين وجهات النظر بين
البيت الأبيض والخارجية الأمريكية التي تدفع باتجاه الانفتاح على دمشق سريعا، وهو
رأي لا يجد دعما له لدى أركان إدارة ترمب الآخرين التي تفضل الآن اقتصار التواصل
على الجوانب الأمنية فقط، وهذا ما أكدته صحيفة "وول ستريت جورنال" نقلا
عن ضباط أمريكيين، أن هذه التحركات تهدف إلى منح الولايات المتحدة دورا في تشكيل
مستقبل سورية وكذلك احتواء تنظيم الدولة الإسلامية، مشيرة إلى أن الجيش الأمريكي
على اتصال بمكتب الرئيس السوري أحمد الشرع ووزارة الدفاع في دمشق.
ويمكن ردها ثالثا إلى الضغوط الإسرائيلية
الهائلة على واشنطن لمنعها من الانفتاح والتعامل مع سورية الجديدة.
وإذا كانت إدارة ترمب تأخذ بعين الاعتبار
المخاوف الإسرائيلية، إلا أنها ترفض مبدأ عدم التعاطي مع سورية، فللولايات المتحدة
مصالح لا تقتصر على البعد الأمني الإسرائيلي.
وهذا ما بدا واضحا في الشروط الأمريكية التي
سُلمت إلى أسعد الشيباني، ثلاثة من هذه الشروط تتعلق بأمن إسرائيل: تدمير ما تبقى
من الأسلحة الكيمائية، المشاركة في محاربة التنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتها
"داعش"، إبعاد المقاتلين الإسلاميين الأجانب من أي منصب قيادي عسكري ـ
أمني في سورية.
أما الشروط الأخرى، فهي شروط بسيطة، منها
تعيين موفد أمريكي لمتابعة التواصل مع الحكومة السورية للبحث عن الصحفي الأمريكي
المختفي، ومنها الابتعاد عن إيران وروسيا، وأخيرا حماية حقوق الإنسان.
وتبدو هذه الشروط جميعها مُتحققة عمليا،
باستثناء الشرط المتعلق بالصحفي الأمريكي، وقد تشير هذه الشروط إلى مضي أمريكي نحو
رفع جزئي آخر للعقوبات خلال الفترة المقبلة، اللهم إلا إن كان ثمة شيء مخفي يتعلق
بإسرائيل والجنوب السوري لم تتضح معالمه حتى الآن.
غير أن التريث الأمريكي، وضبابية إدارة
ترمب، دفع الأوربيين لتعبيد مسار خاص بهم تجاه سورية بمعزل عن الأمريكيين، فإضافة
إلى ملفي اللاجئين والأمن القومي، ركزت الوفود الأوروبية على مسألة الديمقراطية،
والحريات، ودور المجتمع المدني، ومشاركة كافة مكونات المجتمع السوري في إدارة
الحكم الجديد، وكانت التصريحات الفرنسية والألمانية واضحة في هذا الشأن.
ومن مفارقات السياسة التي تُحدثها المتغيرات
الجيوسياسية، أن أوروبا تجد نفسها إلى جانب تركيا والسعودية والأردن في ضرورة
تعزيز الحكم الجديد ودعمه في سورية، مع عدم الاعتراض إلى إعادة بناء العلاقة بين
دمشق وموسكو على أسس جديدة، في حين تجد الولايات المتحدة نفسها أقرب إلى إسرائيل
والإمارات العربية، وإلى حد ما مصر حيال التعامل مع سوريا الجديدة.