تحت ضغط شعوب القارة ومطالبات القادة الأفارقة، تستمر
فرنسا في سحب قواتها وإغلاق قواعدها العسكرية في العديد من الدول الأفريقية، وسط تحولات توصف بالاستراتيجية بالقارة الغنية بالموارد، ودخول لاعبين جدد آخرهم إيران.
وعرفت السنة الماضية انتقادات متزايدة من قبل الشعوب التي تطالب بإنهاء التبعية الأفريقية لباريس، وذلك بعد عقود من الوجود العسكري الممتد الذي بدأ منذ حقبة الاستعمار.
وفي هذا الإطار سلمت فرنسا الخميس، للسلطات
السنغالية قاعدة "كونتر أميرال بروتيت" العسكرية الموجودة في ميناء داكار، وذلك في إطار الانسحاب التدريجي العسكري الفرنسي من البلاد، والمرتقب أن يكتمل في أواخر أيلول/ سبتمبر 2025.
وأفادت السفارة الفرنسية بالسنغال في بيان صحفي، بأن تسليم " كونتر أميرال بروتيت" يأتي ضمن إطار "المناقشات الثنائية" التي تم التصديق عليها خلال اجتماع اللجنة المشتركة في 28 شباط/ فبراير 2025.
اظهار أخبار متعلقة
باريس مضطرة لإغلاق قواعدها
وكان الرئيس السنغالي باسيرو ديوما فاي قال في تصريحات صحفية إن فرنسا "ستضطر لإغلاق قواعدها العسكرية في السنغال لأنها دولة مستقلة وذات سيادة، والسيادة لا تتفق مع وجود قواعد عسكرية أجنبية".
وشدد على أنه "يتعين على السلطات الفرنسية التفكير في إقامة شراكة مجردة من الوجود العسكري تكون غنية ومثمرة ومتميزة كتلك التي تربط بلاده مع دول أخرى عديدة".
من جهته أكد الوزير الأول السنغالي عثمان سونكو "إرادة السنغال في أن تكون لها سيطرتها الخاصة، بما يتعارض مع الوجود الدائم للقواعد العسكرية الأجنبية".
وأشار في تصريحات صحفية سابقة إلى أنه "بعد مرور أزيد من 6 عقود على الاستقلال يجب التساؤل عن الأسباب التي تجعل الجيش الفرنسي ما يزال يستفيد من عدة قواعد عسكرية، وعن تأثير هذا الوجود على السيادة الوطنية والاستقلال الاستراتيجي".
ويرى المحلل السياسي السنغالي، محمد جوب، أن استلام السنغال للقاعدة العسكرية الفرنسية، هو بداية عملية لتنفيذ تعهد الرئيس السنغالي باسيرو ديوماي فاي، خلال الحملة الانتخابية، بإخراج القوات الفرنسية من بلاده.
وأضاف جوب، في تصريح لـ"عربي21": "بدأت عمليا مرحلة مغادرة القوات الفرنسية للأراضي السنغالية، وذلك بعد نحو 60 سنة من الوجود العسكري الفرنسي بالسنغال".
وأشار إلى أن الحضور العسكري الفرنسي في السنغال، كان يوصف بالاستراتيجي، حيث تقيم فرنسا في السنغال أكبر قواعدها العسكرية في القارة، والتي كانت تنفذ من خلالها هجمات على التنظيمات المسلحة بشمال وغرب
أفريقيا.
وأضاف: "منطقة غرب أفريقيا بشكل عام تعرف تحولات كبيرة، حيث المزاج الشعبي الغرب أفريقي، بات يميل لصالح روسيا بدل فرنسا التي هيمنت على المنطقة لسنوات".
اظهار أخبار متعلقة
قطيعة سياسية وعسكرية
وفي وقت طردت فيه عدد من الدول الأفريقية القوات الفرنسية وأتبعت ذلك بقطيعة سياسية، حرصت دول أخرى في القارة على إنهاء الوجود العسكري الفرنسي بها، مع الإبقاء على علاقات سياسية.
وتزعمت بلدان الساحل الأفريقي دول القارة الراغبة في القطيعة مع باريس بشكل كامل، حيث طردت كل من مالي والنيجر، وبوركينافاسو، القوات الفرنسية، وأتبعت ذلك بمواقف سياسية مناهضة لباريس، ثم تطورت الأزمة حتى انهارت العلاقات السياسية والدبلوماسية الفرنسية مع باماكو، وواغادوغو، ونيامي، وهي عواصم بلدان كانت مستعمرات فرنسية سابقة، وكان
نفوذ باريس فيها عاملاً حاسماً.
في المقابل حرصت كل من تشاد ساحل العاج والسنغال، على إنهاء الوجود الفرنسي على أراضيها، بهدوء، وعبر قادة هذه الدول عن رغبتهم في الإبقاء على العلاقات الدبلوماسية والسياسية مع باريس والسعي لتعزيزها.
عوامل تراجع نفوذ فرنسا
ووفق متابعين، فإن من بين عوامل تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا، "فشل باريس المزمن في تجاربها العسكرية في المنطقة، وآخرها عمليتا (سيرفال) و(برخان) في منطقة الساحل، اللتان أدّتا عمليا لزيادة التحديات الأمنية حجما ومستوى بدل القضاء عليها"، بالإضافة إلى رغبة الشعوب في استعادة قرارها، والتخلص من هيمنة المستعمر.
وعلى مدى نحو 60 سنة استخدمت فرنسا وسائل رئيسية، للسيطرة والهيمنة على مستعمراتها السابقة بأفريقيا، ومن بين هذه الوسائل السيطرة السياسية عبر تجنيد النخب السياسية، الحاكمة و الطامحة إلى الحكم، لضمان ولائها وتأمين وصولهم وبقائهم في السلطة، وتقديم الخدمات الأمنية لحمايتهم، وتأمين الخدمات الاستخباراتية التي يرغبون فيها.
إشراف فرنسي على ثروات القارة
وظلّت أفريقيا، لعقود، المزوِّد الرئيسي لفرنسا بالطاقة واليورانيوم والمعادن، إذ تضخّ دول أفريقيّة مثل النيجر ومالي وتشاد 25 في المئة من احتياجات المفاعلات النووية التي تعتمدها فرنسا للتزود بالكهرباء.
كما تضع فرنسا يدها على العديد من ثروات القارة عن طريق الشركات الفرنسية العملاقة.
ووفق تقديرات بعض الخبراء، فإن 80 في المئة من كل ما يتم استخراجه من الموارد والثروات المعدنية في أفريقيا يصدّر بإشراف فرنسي نحو القارات الأخرى.
وتعد أفريقيا المصدر الرئيسي للمواد الخام اللازمة للصناعات الفرنسية، كما ترتبط فرنسا باتفاقيات تعاون نقدي، مع ثلاث مناطق نقدية أفريقية، وهي الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا، والجمعية الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا، واتحاد جزر القمر.
ومن خلال التحكُّم في الفرنك الخاص بالمناطق النقدية الأفريقية الثلاث، تمكنت فرنسا من الهيمنة الكاملة على اقتصادات دول هذه المناطق النقدية، والتي كانت جميعها مستعمَرات فرنسية باستثناء غينيا بيساو، وهو ما أسهم بدرجة كبيرة في تحقيق مصالح فرنسية اقتصادية، تُصنَّف كمصالح حيوية، فيما يرى متابعون أن التحولات الحاصلة حاليا في أفريقيا تهدد هذه المصالح الفرنسية بشكل كبير.
اظهار أخبار متعلقة
لاعبون جدد بأفريقيا
وفي مقابل تراجع النفوذ الفرنسي بشكل متسارع في أفريقيا، دخل لاعبون جدد، لتعويض الخروج الفرنسي منها، وأبرز هؤلاء اللاعبون الجدد، روسيا وتركيا.
فقد هيمنت روسيا بالفعل على منطقة الساحل الأفريقي، وأبرمت اتفاقات عسكرية مع عدد من دول القارة، كما أبدت موسكو استعدادها لدعم ثلاثة من دول الساحل الأفريقي، هي مالي والنيجر وبوركينافاسو، بهدف تشكيل قوة مشتركة، تريد لها الدول الثلاث أن تكون بديلا عن القوة المشتركة "لمجموعة الساحل G5" التي كانت مدعومة أوروبيا.
وتعززت علاقات مالي والنيجر وبوركينا فاسو مع روسيا، بعد وصول العسكريين إلى السلطة إثر سلسلة انقلابات أطاحت بالرؤساء المدنيين الذين كانت تربطهم علاقات وطيدة مع فرنسا والاتحاد الأوروبي، ما تسبب في توتر العلاقات بين بلدانهم والغرب، وقاد ذلك إلى طرد القوات الفرنسية من الدول الثلاث.
وتعرف دول الساحل -التي يحكمها انقلابيون- سباقا نحو التسلح مع التركيز على الصناعات الروسية، ففي عام 2022 تسلمت باماكو دفعة من السلاح الروسي تضم طائرات ومروحيات عسكرية والكثير من الصواريخ المتنوعة، واستعان المجلس العسكري الحاكم بمجموعة فاغنر الروسية التي تقول بعض التقارير إن مالي تنفق عليها شهريا ما يربو على الـ10 ملايين دولار.
وأبرمت كل من النيجر وبوركينافاسو، صفقات للسلاح مع موسكو بهدف تعزيز قدراتهما العسكرية خاصة بعد خروج القوات الفرنسية والأممية من المنطقة.
إيران تبحث عن موطئ قدم
تعد إيران من الدول التي بدأت تولي اهتماما متزايدا بالقارة الأفريقية، وتزايد هذا الاهتمام بعد ما يشبه الانتكاسة الفرنسية والغربية في القارة السمراء مع نهاية العام الماضي وبداية العام الحالي.
وبدأت إيران عمليا مساعيها للحضور في أفريقيا بشكل خاص في النيجر حيث أدى قائد الأمن العام الإيراني العميد أحمد رضائي، قبل أيام زيارة للنيجر وقع خلالها مذكرة تعاون عسكري مع السلطات النيجيرية في مجالات مكافحة التهديدات المشتركة وبناء القدرات.
وتتضمن الاتفاقية عددًا من البنود المهمة، من بينها تبادل المعلومات الأمنية والتدريب والخبرة، إضافة إلى إنشاء لجنة خبراء مشتركة تُعنى بمتابعة تنفيذ بنود الاتفاق وضمان التنسيق المستمر بين الجانبين.
ووفق متابعين يشكّل التوقيع على هذه الاتفاقية الأمنية بين النيجر وإيران تتويجاً لاستراتيجية إيرانية في القارة الأفريقية، بدأت بإقامة المراكز الثقافية وتقديم المنح الدراسية قبل أن تتحول إلى تعاون عسكري وأمني مباشر.
ولا يستبعد متابعون أن تعمل إيران على مقايضة السلاح بالموارد الأولية، وفتح سوق في أفريقيا للمعدات والأسلحة الإيرانية، خصوصا سلاح المسيرات، في ظل قناعة الجيوش الأفريقية بفعالية سلاح المسيرات الإيرانية والتركية.