بصرف
النظر عن السياقات الداخلية والتحولات الإقليمية، يبدو أن ما يمكن أن نسمّيَه
مجازا بـ"لعنة تركيا" ستظل تطارد حركة
النهضة التونسية؛ سواء في علاقتها
باستراتيجيتي الاستئصال الصلب والناعم أو حتى في علاقتها بحزامها الانتخابي
وبالمتعاطفين معها من غير النهضويين. فعندما كانت الحركة في مركز الحقل السياسي، منذ
المرحلة التأسيسية، مرورا بالترويكا والتوافق مع حركة نداء تونس، وانتهاء بفوزها
في الانتخابات التشريعية سنة 2019، حرصت أغلب "القوى
الديمقراطية"
بأذرعها السياسية والنقابية والمدنية والإعلامية على شيطنة المحور التركي-القطري
وحلفائه في تونس وخارجها. وهو خيار صِدامي استراتيجي تجاوز الدائرتين السياسية والأيديولوجية
إلى التعاون الاقتصادي. وقد استمر هذا الخيار "الاستئصالي" بعد
"تصحيح المسار" بالتحريض المُمنهج على الحركة والضغط على السلطة للذهاب
بالمقاربة الأمنية-القضائية للصراع السياسي إلى نهايتها المنطقية: حلّ النهضة
بقرار قضائي والعودة إلى مربّع 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987،
أي انفتاح السلطة جزئيا على "العائلة الديمقراطية -ورثة التجمع واليسار
الوظيفي بشقّيه الماركسي والقومي- وإقصاء "الإسلام السياسي" من العمل
السياسي القانوني.
لا
يعنينا في هذا المقال تفكيك استراتيجيتي الاستئصال الصلب والناعم وعلاقة التعامد
الوظيفي بينهما وبين منظومة الاستعمار الداخلي ومحور "الثورات المضادة"،
فقد قمنا بذلك في أكثر من مقال. فما يعنينا هو السجال العمومي الدائر بين أصوات
غير معادية للحركة ومتمايزة جذريا عن أصحاب الأطروحات الاستئصالية، وهو سجال ظهر
منذ أن أعلن حزب العمال الكردستاني عن حلّ نفسه وإلقاء السلاح والانخراط في اللعبة
السياسية بعد أن استكملت المواجهة المسلحة مع الدولة التركية -حسب ما جاء في بيانه-
"مهمّتها التاريخية". فقد عرفت وسائل التواصل الاجتماعي في تونس سجالا
عموميا حول "تَونسة" قرار حزب العمال، أي مبادرة حركة النهضة بحلّ نفسها.
ولسنا هنا في وراد تحليل/ نقد حجج الداعمين لهذا الرأي أو الرافضين له، بل سنحاول
في هذا المقال التركيز أساسا على "المسكوت عنه" أو "اللامفكر
فيه" طيّ هذا السجال.
جاء "تصحيح المسار" ليؤكد أن "التناقض الرئيس" الذي يحكم النخب "الديمقراطية" ليس تناقضهم مع منظومة الاستعمار الداخلي ولا مع ورثة "التجمع"، بل مع حركة النهضة. ورغم حرص هؤلاء على إدارة الصراع بمفردات أيديولوجية ومقاربات ثقافوية يختزلها شعار الدفاع عن "النمط المجتمعي التونسي"، فإننا نذهب إلى أن الرهان الحقيقي للصراع ليس أيديولوجيا، بل ليس رفض الإسلام السياسي في ذاته
ينطلق
السجال العمومي حول "حل" حركة النهضة لنفسها من مقدمة مطوية في الأنساق
الحجاجية كلها مهما تعارضت في الظاهر: توجّه النظام إلى حل الحركة قضائيا بعد
الانتهاء من القضايا المنشورة أمام القضاء والتي ستبرر مثل هذا القرار اعتمادا على
قانون الأحزاب السياسية ذاته. فبعد إغلاق مقرات حركة النهضة واستهداف أغلب
قياداتها بأحكام سجنية مشددة، يبدو أن الخطوة المنطقية القادمة للنظام -في صورة
عدم دخول أية متغيرات نوعية داخليا وإقليميا- هي حل الحركة بقرار قضائي. وهو ما
يعني أن الدعوة إلى حل الحركة لنفسها تنطلق من منظور استشرافي يحاول تجنيب
"النهضويين" وضعية مأساوية مشابهة لما عاشوه في بدايات التسعينات من
القرن الماضي، كما تنطلق هذه الدعوة من قراءة الترتيبات الإقليمية التي لم تعد
فيها للديمقراطية التي تستدمج "الإسلام السياسي" -أي تلك الديمقراطية
المدجنة أو الصورية- أية أولوية في بناء السياسات الخارجية للقوى الكبرى، أي
للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فالصراع مع الصين وروسيا على أفريقيا، فضلا
عن التهديدات الوجودية التي قد يواجهها المشروع الصهيوني في صورة بناء ديمقراطيات
صلبة تعكس الرأي العام ولا تكون السلطة فيها مجرد وكيل لمصالح الغرب، كل ذلك يجعل
من الدفاع عن الديمقراطية غير المتلاعب بها سلطويا أمرا غير وارد حاليا، أو على
الأقل يقتضي ترتيبات جديدة لا تهدد المصالح الاستراتيجية للغرب وللكيان.
منذ
"الثورة"، فشلت حركة النهضة -باعتبارها حركة سياسية ذات مرجعية إسلامية-
في تسويق نفسها "إسلاما ديمقراطيا" يقطع مع الإسلام السياسي. وهو فشل
داخلي وخارجي مهّد لتحميلها كل آفات "الانتقال الديمقراطي" دون غيرها من
الشركاء السياسيين والاجتماعيين، خلال ما يسميه أنصار "تصحيح المسار"
و"الموالاة النقدية" بـ"العشرية السوداء".
وقد
جاء "تصحيح المسار" ليؤكد أن "التناقض الرئيس" الذي يحكم
النخب "الديمقراطية" ليس تناقضهم مع منظومة الاستعمار الداخلي ولا مع
ورثة "التجمع"، بل مع حركة النهضة. ورغم حرص هؤلاء على إدارة الصراع
بمفردات أيديولوجية ومقاربات ثقافوية يختزلها شعار الدفاع عن "النمط المجتمعي
التونسي"، فإننا نذهب إلى أن الرهان الحقيقي للصراع ليس أيديولوجيا، بل ليس
رفض الإسلام السياسي في ذاته. فالنخب "الديمقراطية" لم تكن قبل الثورة
وبعدها إلا الذراع الأيديولوجية لمنظومة الاستعمار الداخلي، وهي منظومة لا يمكن أن
تقبل بديمقراطية ستشكل تهديدا وجوديا لنواتها الصلبة في حال نجاح التجربة
الديمقراطية، مع ما تعنيه من رقابة وحوكمة ولا مركزية سلطوية وحرية إعلام.. الخ.
ولم يكن بمقدور رسائل الطمأنة التي بعثت بها حركة النهضة -عندما قبلت بشروط تلك
المنظومة خلال المرحلة التأسيسية ومرحلة التوافق- أن تغير شيئا في موقف النواة
الصلبة للحكم ورعاتها الأجانب من حركة النهضة.
إن
المسكوت عنه في الطرح المنادي بحل حركة النهضة لنفسها -أو ما يخجل أصحابه من ذكره-
هو التالي: إن حركة النهضة ليست جسما سياسيا ضروريا في "الديمقراطية
الصورية" التي تنبني على أعين منظومة الاستعمار الداخلي ورعاتها الإقليميين،
بل إن الاشتغال الطبيعي للحقل السياسي -أي اعتماد الإرادة الشعبية أساسا لبناء
السياسات الداخلية والخارجية- في "الكيانات الوظيفية" التي تسمى مجازا
دولا هو أمر مستحيل واقعيا، خاصة في المرحلة الإمبريالية المتصهينة الطاردة لأي
مكوّن إسلامي ذي مرجعية إخوانية.
إننا
أمام "واقعية سياسية" متخففة من الشعارات الثورية ومن "منطق
الرغبة". فانتظار حل النهضة بقرار قضائي قد يزيد في توتير العلاقة مع الدولة،
وقد يكون مناسبة سيستغلّها الاستئصاليون لممارسة دور "صائدي الساحرات"
وإعادة تشغيل منطق "محاكم التفتيش" القروسطية باستعارات حداثوية زائفة.
وهي فرضية ستتجنبها البلاد إذا ما استبَقت الحركة هذا القرار المنتظر، كما أن خيار
حل الحركة سيخرج البلاد من الانقسامات الهوياتية الحادة التي حكمتها قبل الثورة
وبعدها وسيفقد "أشباه الديمقراطيين" علة وجودهم ذاتها. ولكنّ ما لا
يقوله أصحاب هذا الطرح هو أن إقصاء "الإسلاميين"، رغم
"الواقعية" التي قد تبرر الطرح المنادي بحل حركة النهضة (الرفض المحلي
والإقليمي للإسلام ذي المرجعية الإخوانية مع اليأس من أي تقارب بين الحركة
و"العائلة الديمقراطية" على أساس الاعتراف المبدئي بعيدا عن هيمنة
منظومة الاستعمار الداخلي أو ضد تلك الهيمنة)، فإننا نذهب إلى أنه طرح قد يخدم
النهضويين ولكنه لا يمكن أن يخدم أي مشروع ديمقراطي في تونس.
فإقصاء
حركة النهضة بحكم قضائي -أو قبول النهضويين بحل حركتهم طوعيا- لا يعني واقعيا إلا
الإقرار بموت الحياة السياسية في تونس كما وقع زمن المخلوع. فقد أثبت "تصحيح
المسار" أن الديمقراطية ليست حاجة نخبوية (خاصة عند ما يُسمّى بـ"العائلة
الديمقراطية") فضلا عن أن تكون حاجة شعبية. وهو ما يعني الالتقاء موضوعيا مع
أصحاب مقولة التناقض الرئيس والتناقض الثانوي بجعل الديمقراطية التمثيلية
والاجتماعية مطلبا مؤجلا، وإن اختلفت مقدمات هذا الطرح وأهدافه بين دعاة حل حركة
النهضة واليسار الوظيفي.
إذا
كان دعاة إقصاء الإسلاميين من الحقل العمومي برمته يؤجلون صراعهم مع "الرجعية
البرجوازية" الحاكمة -منذ عهد المخلوع- باعتبارها تمثل التناقض الثانوي على
عكس تناقضهم الرئيس مع "الرجعية الدينية"، فإن دعاة حل حركة النهضة
يعتبرون أن خروج "الإسلام السياسي" من المشهد السياسي سيعمق أزمة
المنظومة الحاكمة وأذرعها الوظيفية، وقد يخلق شروطا جديدة لتجربة ديمقراطية
مستأنفة. ولكنهم يبنون هذا الطرح على مقدمتين لا يمكن التسليم بهما: أولا، أن
النهضة ليست هي الأخرى كانت جزءا من الأذرع الوظيفية لمنظومة الاستعمار الداخلي،
ولكنها ذراع غير ضروري ومؤقت ويمكن الاستغناء عنه. وهو ما يعني ضرورة مقاربة دور
"الإسلام السياسي" الحقيقي لا المتخيل في إعادة التوازن للمنظومة
القديمة بعد اختلالها المؤقت عقب "الثورة"؛ ثانيا، أن أزمة منظومة
الاستعمار الداخلي -أو حتى سقوط واجهتها الحالية- يعني بالضرورة نهاية تلك
المنظومة. فالأزمة البنيوية للحقل السياسي -بل الأزمة المجتمعية بمختلف وجوهها-
ليست مرتبطة بوجود النهضة أو عدم وجودها، بل هي مرتبطة بالخيارات التأسيسية لما
يسمى بـ"الدولة-الأمة" وسرديتها البورقيبية. وهو إشكال نجزم أنّ النهضة
كانت -خلال عشرية الانتقال الديمقراطي- أعجز من أن تقدم له إجابة مختلفة عن إجابات
"العائلة الديمقراطية" بحيث تشكل تهديدا وجوديا/استراتيجيا لمنظومة
الاستعمار الداخلي. إذن، لماذا تستهدف الحركة بهذا الشكل الممنهج؟
أزمة الحركة هي في وجه من وجوهها أزمة "داخلية" ولكنها في بعض وجوهها الأخرى أزمة العقل السياسي "الحداثوي"، وهي في التحليل الأخير "أزمة العقل السياسي التونسي" بمختلف سردياته يمينا ويسارا
إن
الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن أن تكون إلا إجابة مركّبة يتداخل فيها المحلي
والإقليمي والدولي، فأن نرد الاستهداف إلى الطابع "الإخواني" أو
الإسلامي للحركة لا يقدم إلا تفسيرا جزئيا. فما حققته النخب العلمانية من مكاسب
خلال وجود النهضة كانت عاجزة عن تحقيقه زمن المخلوع، بل زمن بورقيبة ذاته (منظمة
شمس للمثليين، رفع الاحترازات على اتفاقية سيداو، فتح نقاط بيع بالجملة للخمور في
أغلب الولايات، المهاجمة النسقية للمقدس الجمعي، تعيين المطبّعين في مراكز القرار
الديبلوماسي.. الخ). كما أن ربط المقاربة الأمنية-القضائية للصراع السلطوي ضد حركة
النهضة بضغوط خارجية من محور الثورات المضادة لا يمكن أن يفسر "مقبولية"
هذه المقاربة داخليا وخارجيا، خاصة من رعاة "الانتقال الديمقراطي"
التونسي في الغرب. أما ربط "قابلية" الحركة لهذه المقاربة بتواطؤ النخب
"الديمقراطية" فهو يُغطّي على دور الحركة -بخياراتها التوافقية وبعض
خطاباتها- في خلق تلك "القابلية" لدى النخب وفي خلق
"المقبولية" الاجتماعية للمقاربة القضائية-الأمنية تجاهها، وإن كان لا
يفسّرها بصورة شاملة.
ختاما،
فإن أزمة الحركة هي في وجه من وجوهها أزمة "داخلية" ولكنها في بعض
وجوهها الأخرى أزمة العقل السياسي "الحداثوي"، وهي في التحليل الأخير
"أزمة العقل السياسي التونسي" بمختلف سردياته يمينا ويسارا. ونحن نذهب
إلى أن تلك الأزمة مرتبطة بتبعية جميع الفاعلين -بدرجات مختلفة- للسردية
البورقيبية وللأساطير المؤسسة للدولة-الأمة وعجزهم عن مواجهتها وتجاوزها جدليا، أي
عجزهم جميعا عن التعامل معها باعتبارها أيديولوجيا "منظومة الاستعمار
الداخلي" أو الاستعمار في مرحلته غير المباشرة. وهو ما جعلهم -بمن فيهم حركة
النهضة- مجرد أدوات "مؤقتة" في خدمة مصالح النواة الصلبة لتلك
المنظومة ومصالحها المتناقضة جوهريا مع أي ديمقراطية حقيقية.
فالاستهداف
الممنهج لحركة النهضة ليس مرده طابعها "الإسلامي" أساسا، بل هو استهداف
استدعاه السياق. فلو كنا في سياق مختلف يهيمن فيه حزب العمال (الشيوعي) أو حركة
الشعب (القومية) لما اختلفت مآلات الانتقال الديمقراطي؛ لأن المستهدف الأصلي هو
الديمقراطية ومشروع التحرير وبناء مقومات السيادة، أما الأحزاب -ومختلف الأجسام
الوسيطة- فهي مستهدفٌ سياقي أو فرعي، ولم يكن تعامل منظومة الاستعمار الداخلي معها
ليختلف مهما كانت مرجعياتها الأيديولوجية ما دام وجودها/خطابها سيهدد مصالحها
ومصالح رُعاتها ولو بعد حين.
x.com/adel_arabi21