يبدو أنّ مبادرة "حسن النية" التي قامت بها
حماس بإطلاق سراح المواطن الأمريكي عيدان ألكسندر (وهو أيضا جندي إسرائيلي مقاتل
في لواء جولاني) لم تكن كافية، حتى لمجرد إدخال مواد ضرورية لقطاع
غزة لتخفيف حالة
المجاعة الخانقة التي اصطنعها الاحتلال الإسرائيلي، هذا عِوضا عن أن تدفع باتجاه وقف
الحرب والمجازر الإسرائيلية. وبالرغم من أن القادة الأمريكان قدَّروا هذه البادرة
التي استثمروها جيدا في زيادة شعبية
ترامب في الولايات المتحدة، وفي إيجاد أجواء
إيجابية كان ترامب في حاجة ماسة لها في زيارته لعدد من بلدان الخليج، وسواءٌ كان
ذلك يعود للتَّصلُّب والتعنت الإسرائيلي أم لعدم بذل الأمريكان ضغطا كافيا على
الإسرائيليين، فإنّ النتيجة كانت استمرار الحرب ونزيف الدماء وبأسلحة أمريكية، حتى
في ذروة الترحيب والاحتفاء العربي الخليجي بترامب، الذي حصد أكثر من ثلاثة
تريليونات دولار من ثروات أمتنا العربية في زيارته؛ وهكذا، فإنّ نزيف ثرواتنا لم
يوقف نزيف دمائنا.
الأمريكان قاموا بنصف خطوة للأمام، ففعَّلوا عملية
المفاوضات حول غزة، ودفعوا الوفد الإسرائيلي المفاوض للحضور إلى قطر، وحضر ويتكوف وبولر،
المسؤولان الأمريكيان المعنيان بملف التفاوض، والتقوا بشكل مباشر بقيادة حماس، غير
أنّ
نتنياهو رفع من درجة التصعيد في غزة، وأعلن عن استهداف القائد العسكري لحماس
في القطاع محمد السنوار والناطق باسم كتائب القسام أبي عبيدة، وضاعف من حجم
المجازر، ليُفشل عمليا أي جهد ممكن للتوصل إلى صفقة أو لوقف الحرب.
لم يبالِ نتنياهو كثيرا بإظهار ترامب وفريقه في مظهر "الفاشل"، ولا بالمطبّعين العرب، ولا بالمُسوِّقين لمسار التسوية. ولذلك، بدا لافتا ذلك الاختراق الكبير في لقاء الرئيس الشرع ورفع العقوبات عن سوريا، مع العجز الكامل عن إدخال ما يسدُّ الرّمق ولو رمزيا إلى غزة
ولم يبالِ
نتنياهو كثيرا بإظهار ترامب وفريقه في مظهر "الفاشل"، ولا بالمطبّعين
العرب، ولا بالمُسوِّقين لمسار التسوية. ولذلك، بدا لافتا ذلك الاختراق الكبير في لقاء
الرئيس الشرع ورفع العقوبات عن سوريا، مع العجز الكامل عن إدخال ما يسدُّ الرّمق
ولو رمزيا إلى غزة.
وهنا، تظهر أولوية نتنياهو في الحفاظ على تحالفه الحاكم،
الذي يعتمد بقاءُ الصهيونية الدينية فيه على استمرار الحرب على غزة، وكذلك حاجة
نتنياهو له للتعامل مع ملفات تغيير رئيس الشاباك، ومستشار الحكومة، وإعادة بناء
المنظومة القضائية؛ بالإضافة إلى تهرُّب نتنياهو من أي استحقاقات متعلّقة بملفات محاكمته،
أو بمحاسبته على ما حدث في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وبالتالي، بالنسبة
لنتنياهو تبدو استحقاقات الذهاب إلى تسوية وإنهاء الحرب (ضمن الحسابات الراهنة)
أثقل من استحقاقات المضي في الحرب وأثمانها الباهظة عسكريا واقتصاديا وبشريا
وسياسيا.
غير أنّ الزمن لا يلعب بالضرورة لصالح نتنياهو؛ فربما خدَمَ
نتنياهو وجودُ الغطاء الأمريكي، وملاحظة الأمريكان أنّ الذهاب إلى صفقة في المرحلة
الراهنة ستصبُّ في صالح بقاء حماس وقوى المقاومة في القطاع، وفشل مشاريع التهجير،
وفشل التصورات الأمريكية الإسرائيلية المتعلقة باليوم التالي في القطاع والتي
تستهدف في حدِّها الأدنى نزع سلاح المقاومة، وإخراج حماس من المشهد السياسي والمؤسسي
الفلسطيني؛ مع إدراك أنّ ترامب وفريقه ملتزمون بالرؤى "المسيحية
الإنجيلية" الداعمة للرؤية الصهيونية، والتي لا ترى الشعب الفلسطيني، ولا ترى
حقوقا له في أرضه ومقدساته، وتدعم مشاريع الضم والتهجير، ولا تعطي وزنا للقوانين
الدولية ولا للقيم الإنسانية.
ربما يحاول نتنياهو تجريب حظه لتحقيق أهدافه من خلال الاستمرار في الحرب، ولكن على ما يبدو فإن خياراته تضيق مع الزمن مع استمرار صمود المقاومة وقوة أدائها، ومع تصاعد الضغوط الداخلية لإنهاء الحرب والتي تصل إلى نحو 70 في المئة، ومع غياب الغطاء الدولي وقرب استهلاك الغطاء الأمريكي، ومع استمرار نزيفه الداخلي.. وهو ما يعني أنه سيستنفد خياراته وقدرته على المناورة عاجلا أم آجلا، ويضطر للنزول عن الشجرة والاستجابة لصفقة
من جهة أخرى، فإن براجماتية ترامب وسلوكه كتاجرٍ يُحبُّ
عقد الصفقات، ورفعه لشعار "أمريكا أولا"، وطبيعته المتقلبة التي تحبُّ
سرعة الإنجاز، واختلافه مع نتنياهو في طريقة إدارة الأولويات، وشعوره أنه يخدم
المصالح العليا للكيان الإسرائيلي بطريقة أفضل من حكومة نتنياهو المتطرفة؛ وأن
سلوك نتنياهو يَحرمه من فرص التطبيع في المنطقة؛ كما يزيد من عزلته الدولية، ويُحوّل
الاحتلال إلى كيان منبوذ عالميا، كما يحوله إلى عبءٍ مالي عسكري وسياسي على صانع
القرار الأمريكي.. كل ذلك، يجعل فرص نتنياهو في الاستمرار في الاعتماد على الغطاء
الأمريكي تتآكل وتتراجع مع الزمن؛ مع ملاحظة أن معظم حلفاء الكيان الأوروبيين قد
نفضوا أيديهم أيضا من نتنياهو، ورفعوا غطاءهم عن استمرار حربه على غزة.
يظهر ترامب أحيانا وكأنما يلعب نوعا من "تبادل
الأدوار" مع نتنياهو، ويُصعّد أو يخفض لهجته بحسب مسارات الأحداث والمقتضيات
الواقعية لأهدافه في المنطقة، والحاجة إلى نوعٍ من الخطاب السياسي المتناسب الذي
لا يذهب بعيدا في إحراج حلفائه في التطبيع أو القابعين تحت المظلة الأمريكية؛ وإن
كانت طبيعته النرجسية الصريحة ونظرته الدونية للمنطقة وزعمائها تدفعه أحيانا
للتعبير بما يتوافق مع رؤاه "المسيحية الإنجيلية". وكان آخرها تصريحه في
أبو ظبي في 15 أيار/ مايو 2025 الذي كرَّر فيه الرغبة الأمريكية بامتلاك قطاع غزة والتصرف فيه
وفق رؤيته، دونما اعتبار للشعب الفلسطيني ولا لأرضه ولا لتاريخه ولا لقضيته ولا
لحقوقه غير القابلة للتصرف ولا لمئات القرارات الدولية. وفي الوقت نفسه، فإن ترامب
ما زال يطمح في تقديم نفسه كـ"صانع سلام"، ومرشح لجائزة نوبل للسلام،
وكزعيم كاره للحرب، وغير راغب في تغطية نفقات الحرب لحلفائه، وهو ما يجعله غير
متَّسق مع نفسه كمؤيد لجرائم الإبادة الجماعية في غزة وداعم لتهجير الشعب
الفلسطيني؛ وكساكت عمليا عن جريمة التَّسبب بمجاعة لأهل غزة.
وفي الخلاصة، فربما يحاول نتنياهو تجريب حظه لتحقيق
أهدافه من خلال الاستمرار في الحرب، ولكن على ما يبدو فإن خياراته تضيق مع الزمن
مع استمرار صمود المقاومة وقوة أدائها، ومع تصاعد الضغوط الداخلية لإنهاء الحرب
والتي تصل إلى نحو 70 في المئة، ومع غياب الغطاء الدولي وقرب استهلاك الغطاء الأمريكي،
ومع استمرار نزيفه الداخلي.. وهو ما يعني أنه سيستنفد خياراته وقدرته على المناورة
عاجلا أم آجلا، ويضطر للنزول عن الشجرة والاستجابة لصفقة تفرض فيها المقاومة في
النهاية شروطها الأساسية.
x.com/mohsenmsaleh1