مدونات

بين قرّرت وأجّلت: الخاوة على أصولها!

أمجد بشكار
"من قرر متى وأين وكيف تتم الصفقات، ليست تل أبيب، بل المقاومة في غزة"- الأناضول
"من قرر متى وأين وكيف تتم الصفقات، ليست تل أبيب، بل المقاومة في غزة"- الأناضول
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، قلبت المقاومة الفلسطينية الطاولة على الاحتلال الإسرائيلي عدة مرات وفي مراحل عديدة، ليس فقط عسكريا، بل في واحدة من أكثر الملفات حساسية وتعقيدا: ملف تبادل الأسرى، فالسؤال المركزي كيف تحوّلت المقاومة إلى لاعب رئيسي في معادلة الأسرى؟ وكيف أدارت الملف بحنكة ودهاء وذكاء، وكيف أجبرت الاحتلال على الرضوخ لقواعدها؟

قرار حاسم منذ اللحظة الأولى

في اللحظات الأولى من عملية "طوفان الأقصى"، أدركت المقاومة أن ملف الأسرى سيكون أحد أعمدة الضغط على الاحتلال الإسرائيلي، فلم يكن احتجاز الجنود والمدنيين مجرد تحصيل حاصل، بل خطوة محسوبة بعناية، وملف الأسرى الإسرائيليين حرب معلنة تديرها المقاومة بحذر، ورسالة بأن من يتحكم بهذا الملف هي المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وليس تل أبيب.

منذ اللحظة الأولى وضعت المقاومة قواعد اللعبة:
تسلحت المقاومة بأن قوتها لا تكمن فقط في قدراتها العسكرية أو السياسية، بل في عقيدتها الراسخة التي تجعلها تخوض مفاوضات متدرجة وبطيئة، باعتبار قضية الأسرى عقائدية وأخلاقية، وهو ما منحها دعما شعبيا واسعا

المقايضة مقابل الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين: لا حديث منذُ بداية الحرب عن إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين إلا بإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين؛ بصفقة تحمل في طياتها إمكانية تغيير وجه السجون والإفراج عن الغالبية العظمى من المعتقلين، بمن فيهم أصحاب المحكوميات العالية، وهذا ما كان مؤخرا على لسان مسؤولين إسرائيليين يؤيدون الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة في إطار مبدأ "الكل مقابل الكل"، فقد تسلحت المقاومة بأن قوتها لا تكمن فقط في قدراتها العسكرية أو السياسية، بل في عقيدتها الراسخة التي تجعلها تخوض مفاوضات متدرجة وبطيئة، باعتبار قضية الأسرى عقائدية وأخلاقية، وهو ما منحها دعما شعبيا واسعا.

إدارة تفاوضية ذكية: لم تقع المقاومة في فخ المفاوضات السريعة والمجزأة، بل أدارت العملية بـ"التقسيط" وفق رؤية مدروسة، فقد استخدمت الإعلام بمهارة فائقة، فتارة من بوابة التسريبات حول ظروف الأسرى الاسرائيليين، وتارة أخرى عبر الفيديوهات التي تنشرها المقاومة، وصولا الى التحكم بطريقة إخراج الأسرى الإسرائيليين، وكلها أوراق ضغط أبقت الاحتلال في حالة إرباك دائم والتي بدورها صعدت من وتيرة الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي.

"أجّلت" بذكاء فزاد الثمن!

مع كل جولة تفاوض، كانت المقاومة تقول للاحتلال: لسنا في عجلة من أمرنا! التباطؤ لم يكن ضعفا، بل كان تكتيكا مدروسا لرفع سقف المطالب، متزامنا مع ثباتها في الميدان رغم الضغوطات وقدرتها على التغيير المستمر في الاستراتيجيات العسكرية والسياسية لمواجهة المستجدات، هذه الاستراتيجية جعلت الاحتلال يرضخ لمطالب لم يكن ليقبل بها في بداية الحرب، والسبب؟ الزمن لم يكن في صالحه، ففي كل جولة مفاوضات كان يزداد الضغط الشعبي في إسرائيل مع استمرار احتجاز الأسرى،
الاحتلال الذي اعتاد أن يكون الطرف الذي يفرض شروطه، وجد نفسه في موقف "الدافع" لا المتحكم، فدفع مقابل كل يوم تأخير حياة بعض الأسرى الإسرائيليين، والنتيجة الحتمية كانت بإطلاق سراح أسرى كان يرفض الإفراج عنهم لعقود طويلة، عبر إذلاله سياسيا أمام جمهوره وأمام العالم بأن المقاومة لم تمنح الاحتلال هدايا مجانية، بل جعلته يدفع الثمن غاليا، وبالتقسيط المريح، ولكن بشروط المقاوم
فتحولت عائلات المحتجزين إلى قوة ضغط داخلية على حكومة نتنياهو، خاصة مع القلق المتصاعد بأن المقاومة قد تُقدم على تصفية بعض المحتجزين إذا استمر التعنت الإسرائيلي، كل هذا جعل الاحتلال يرضخ تدريجيا، فيما حافظت المقاومة على زمام المبادرة.

"الخاوة" على أصولها!

يمكن هزيمة جيش، يمكن تدمير مبانٍ، ويمكن فرض حصار اقتصادي، لكن لا يمكن القضاء على فكرة متجذرة في وجدان شعب بأكمله بأن لن يترك أسراه، ما فعلته المقاومة يمكن وصفه ببساطة بأنه "الخاوة على أصولها"، لكن بأسلوب ذكي واحترافي، فالاحتلال الذي اعتاد أن يكون الطرف الذي يفرض شروطه، وجد نفسه في موقف "الدافع" لا المتحكم، فدفع مقابل كل يوم تأخير حياة بعض الأسرى الإسرائيليين، والنتيجة الحتمية كانت بإطلاق سراح أسرى كان يرفض الإفراج عنهم لعقود طويلة، عبر إذلاله سياسيا أمام جمهوره وأمام العالم بأن المقاومة لم تمنح الاحتلال هدايا مجانية، بل جعلته يدفع الثمن غاليا، وبالتقسيط المريح، ولكن بشروط المقاومة!

فما فعلته المقاومة في ملف الأسرى بعد 7 أكتوبر يعتبر درسا في فن التفاوض وإدارة الصراعات، وقد أثبتت المقاومة أن من يملك الورقة الأقوى، ويُحسن استخدامها، يستطيع فرض معادلات جديدة، فالاحتلال الذي حاول كسر إرادة غزة، خرج مكسورا في الجولة الأولى من المفاوضات ليس سياسيا وعسكريا فحسب، وإنما على طاولة المفاوضات، فما عجز عنه في الميدان كان من الاستحالة تحقيقه من المفاوضات.

في النهاية، من قرر متى وأين وكيف تتم الصفقات، ليست تل أبيب، بل المقاومة في غزة، هذه الحقيقة هي أكبر انتصار في حد ذاتها!
التعليقات (0)

خبر عاجل