أفكَار

المَسِيرات من أجل فلسطين.. الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، وعظمة النفع(2)

 الاكتفاء بعدم التورط في التطبيع وبالمواقف السياسية والدبلوماسية الجيدة وحرية العمل الخيري لصالح سكان غزة، التي هي تقاليد راسخة في الدولة والمجتمع بالجزائر ، لا يتناسب على الإطلاق مع حجم المأساة وعمق الكارثة وخطورة المصير الذي يهدد القضية الفلسطينية.
الاكتفاء بعدم التورط في التطبيع وبالمواقف السياسية والدبلوماسية الجيدة وحرية العمل الخيري لصالح سكان غزة، التي هي تقاليد راسخة في الدولة والمجتمع بالجزائر ، لا يتناسب على الإطلاق مع حجم المأساة وعمق الكارثة وخطورة المصير الذي يهدد القضية الفلسطينية.
في هذا الجزء الثاني من ورقته التحليلية، يواصل الدكتور عبد الرزاق مقري، الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم الجزائرية، تفكيك الشبهات حول جدوى المسيرات الشعبية المؤيدة لفلسطين، مجيباً على مواقف بعض الدول العربية، ومنها الجزائر، التي قيدت التظاهر دعماً للمقاومة الفلسطينية ورفضاً لحرب الإبادة في غزة.

ويستعرض مقري، في قراءة فكرية وسياسية معمقة، حدود الجهد الرسمي الجزائري مقارنةً بالمسؤولية الأخلاقية والتاريخية تجاه القضية الفلسطينية، معتبراً أن الوقوف على المواقف الشكلية والسياسات الدبلوماسية التقليدية لا يكفي لردع العدوان أو حماية الشعب الفلسطيني، ويؤكد أن الأولوية المطلقة هي لكسر الحصار وتعبئة الشارع والمجتمع المدني لمساندة المقاومة وحماية المدنيين، وفق منظور يوازن بين المرجعية الوطنية والتاريخية الجزائرية، وبين المقاصد الشرعية والإنسانية الملحة.


5 ـ الدولة الجزائرية قائمة بواجبها تجاه فلسطين.. الحقيقة ومعيار الحكم

كثير من القاعدين عن القيام بواجبهم تجاه المأساة الجارية في غزة والعدوان العظيم على الضفة والقضية الفلسطينية كلها، يواجهون كل من يدعو إلى رفع سقوف الدعم في مختلف جوانبه، بأن الدولة الجزائرية قائمة بواجبها كاملا خلافا ـ في ظنهم ـ لكل دول العالم! وفي محاججتهم المزهوين بها هذه لا يجدون أكثر من موقفين للجزائر يتحدثون بهما وهما عدم وجود التطبيع في بلادنا، وبعض التصريحات السياسية، وخاصة مواقف ممثل الجزائر في مجلس الأمن  في العضوية المؤقتة، ويضيف بعض المكتفين بالعمل الخيري أن السلطات الجزائرية متساهلة مع المساهمين في العمل الإغاثي والإنساني المتميز في بلادنا.

لا شك أن هذه المواقف مشرفة وهي في رصيدنا جميعا كجزائريين وأسأل الله أن يتقبل من كل جزائري صادق مخلص بذل جهده على هذه المسارات الثلاثة، وصمد في المحافظة عليها، غير أن ثلاثة أمور تنسف هذا الجهد وتجعله في المراتب الدنيا من مواقف وسياسات وأفعال الدعم والنصرة، وذلك ضمن معايير موضوعية نبيُّنها بعد ذكر الأمور الثلاثة.

إن نجدة الغزيين في أكلهم وشربهم ودوائهم ومسكنهم وتعليمهم واجبة ولكن هذا الواجب لا يتحقق إلا بكسر الحصار. فكسر الحصار هو المقصد وهو مقدم في سلم الأولويات على غيره، ضمن ما تبينه قاعدة “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، التي يقول بشأنها الإمام القرافي: (وعندنا وعند الجمهور، ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وهو مقدور للمكلف فهو واجب لتوقف الواجب عليه)
أما الأمر الأول فهو أن الاكتفاء بعدم التورط في التطبيع وبالمواقف السياسية والدبلوماسية الجيدة وحرية العمل الخيري لصالح سكان غزة، التي هي تقاليد راسخة في الدولة والمجتمع بالجزائر ، لا يتناسب على الإطلاق مع حجم المأساة وعمق الكارثة وخطورة المصير الذي يهدد القضية الفلسطينية ومستقبل العالم العربي والإسلامي كله. فهل يكفي الزهو بهذه الأعذار الثلاثة للتنصل من مسؤولية الخذلان تجاه الإبادة الجماعية وصور الهياكل العظمية والموت بالمجاعة؟ هل نفعت تلك المواقف وذلك البذل، على أهميتها، في وقف العدوان وإدخال المساعدات ليُقال عن الدولة الجزائرية أنها أدت ما عليها ولا يُطلب منها أن تزيد أكثر من هذا، وأنه على النخب الجزائرية وكل الشعب الجزائري أن يستريحوا  وأن ينعموا بحياتهم ولا يساهموا بأي شيء فاعل آخر؟ وهل تصُدّ تلك المواقف خطر تصفية القضية الفلسطينية إذا تم كسر المقاومة وتهجير الشعب الفلسطيني، ثم السيطرة الكاملة على كل العالم العربي بعدئذ لجعله تابعا ذليلا مستدام الضعف والتخلف وربما التقسيم بلدا بلدا؟

أما الأمر الثاني هو أن الجزائر ليست وحدها في العالم التي تتميز بتلك المساهمات الثلاث، فثمة دول عربية وإسلامية أخرى غير مطبعة مع الكيان منها تونس وموريتانيا وليبيا واليمن والكويت والعراق وسوريا ولبنان، دون أن أتحدث عن دول أخرى غير هذه تطبع في السر أو لها علاقات تجارية ورياضة وثقافية دون علاقات دبلوماسية.  كما أن ثمة دول أخرى تتحدث بجرأة عظيمة ضد الكيان الصهيوني في الأمم المتحدة وداخل بلدانها وفي مؤسساتها الرسمية والشعبية، وبعض هذه الدول غير مطبع، وبعضها الآخر مطبع، وبالإمكان أن نجمع تصريحات من هؤلاء أشد بكثير من تصريحات المسؤولين الجزائريين، بل إن تصريحات بعض هؤلاء المسؤولين الجزائريين كانت مخيبة تجعلنا نحذر كثيرا في إمكانية صمود الموقف الرسمي الجزائري مستقبلا بخصوص المقاومة والقضية الفلسطينية عموما، خصوصا حينما يقول أحدهم أنه إذا قبل الفلسطينيون أي حل يعرض عليهم يمكننا أن نطبع مع الكيان، والخوف ها هنا أن يكون المقصود بالشعب الفلسطيني هو محمود عباس المنكر للمقاومة المسلحة، خلافا لما كانت عليه الثورة التحريرية، ومنظمة التحرير التي لا تمت بصلة بالرسالة  الثورية لجبهة وجيش التحرير الوطني إلى غاية التحرير الكامل وهزيمة فرنسا.

والأمر الثالث هو أن تاريخ الجزائر أعظم بكثير من هذه المواقف الثلاثة التي يزايد بها العاجزون أو المتخاذلون، فالجزائر لم تشكلها مخططات سايكس بيكو، أو تفاهمات بين الاستعمار ونخب صنعها على عينه، وهبها الاستقلال لتكون تابعة له. لقد افتك الجزائريون استقلالهم بثورة عظيمة من أعظم ثورات التحرير  ضد الاستعمار في التاريخ وقدموا في سبيل ذلك مليون ونصف من الشهداء دون الحديث عن شهداء ما قبل الثورة النوفمبرية  الذين يصل بهم عدد الشهداء إلى أكثر من سبع ملايين، كما أن الاحتلال الذي واجهوه كان  احتلالا استيطانيا إحلاليا كالاحتلال الذي يواجهه أشقاؤنا الفلسطينيون، فلا يوجد في الأرض من يفهم الحالة الفلسطينية كالجزائريين. علاوة على أن ثورتنا نالت دعما سخيا عظيما من أشقائنا العرب، بالمال والسلاح والمظاهرات في كل العواصم، وبالسياسة والدبلوماسية والفن وغير ذلك، فلا يمكن لمجرد منع التطبيع والمواقف السياسية والتساهل مع جمع المساعدات أن تقف أمام التاريخ وطبيعة الدولة التي بناها الكفاح الثوري، أو أن تكافئ حجم المساعدات التي استفادت منها الثورة من الأشقاء. فلا يمكن البتة أن تقارَن الجزائر نفسها بغيرها من البلدان في حجم النصرة والدعم الذي عليها أن تقدمه، والذي به تحفظ تاريخها، وتميزها وكرامتها ومكانتها.

أما عن معايير مستوى النصرة والدعم التي نحكم بها على أنفسنا ونقارن بها موقف الجزائر بالنسبة لغيرها فهي خمسة معايير.

المعيار الأول: وهو عدم وجود تطبيع مع الكيان، والجزائر موفّقة بفضل الله في التمثل بهذا المعيار، هي وعدد من الدول الأخرى على نحو ما ذكرنا أعلاه.

المعيار الثاني: وهو المواقف السياسية والدبلوماسية الرسمية والجزائر كذلك موفقة في هذا الجانب. والذي ساعد في إظهار الموقف المنصب الرسمي المؤقت في مجلس الأمن، ولكن ثمة من يماثلها في قوة المواقف والتصريحات والبيانات وهناك من يتجاوزها بكثير كما قلنا.

المعيار الثالث: المساهمة المجتمعية في النصرة والدعم، وما تتميز به الجزائر في هذا الجانب هو توفر هامش حرية جيد للدعم الإنساني الشعبي، مع أن هذا الدعم يتميز بالهشاشة المؤسسية بسبب الأوضاع القانونية الصعبة، بل المستحيلة في كثير من الأحيان،  للمجتمع المدني وقد يتعرض الهامش المتاح  إلى مضايقات مستقبلا لأسباب مزاجية أو حسابات سياسية أو أيديولوجية أو ضغط خارجي، ولا حافظ لدوامه سوى الله. وغير هذا لا يوجد شيء استثنائي منظم يذكر في المجتمع الجزائري، فالمسيرات ممنوعة رغم ما فيها من فوائد عظيمة في رفع معنويات أشقائنا في غزة وفي إظهار الموقف الصلب تجاه الاحتلال وحلفائه الأمريكيين والغربيين بما يجعلهم يفهمون بأن مصالحهم مهددة بسبب غضبة الشعوب، كما أن العمل المنظم لدعم القضية الفلسطينية في مختلف ملفاتها الأخرى يكاد يكون منعدما بسبب التكبيل التام  للمجتمع المدني والعمل المنظم بشكل عام، ولا يعتد بالأنشطة الفردية في الوسائط الاجتماعية، ولا بالبيانات وبالاجتماع داخل القاعات بالعشرات أو بضع المئات من الناس التي تقوم بها بعض الأحزاب والمنظمات والتي لا يسمع بها لا الفلسطينيون المنكوبون ولا الصهاينة ولا القوى المتحالفة معها.

إن الضرر الأعظم الذي يلحق أهلنا في غزة ويتسبب في قتلهم بالجوع والأمراض إنما هو الحصار، والذي يضعف أداء المقاومة هو عزلهم عمّن يسندهم بالعتاد والمال والغذاء. وحتى وإن تدبرت المقاومة أمرها فإن الهلاك الذي يلحقه الاحتلال بحاضنتهم الشعبية يؤثر كثيرا في أدائها وسلامتها، وعليه فإن واجب الوقت بعد اشتداد الحصار هو كسره بالضغط على الكيان وعلى حلفائه الأمريكان والأوربيين والعرب بقوافل كسر الحصار البحرية والجوية والبرية، وبالوقفات والمظاهرات ومختلف الفعاليات الاحتجاجية
المعيار الرابع: وهو الدعم المالي المباشر للفعل المقاوم أو الإنفاق المباشر وإقامة المؤسسات الخدمية لصالح أهل غزة، وهذا الأمر غير متوفر، فقبل الطوفان كانت الجزائر تسلم مساهمتها لعباس، ولا تزيد على ذلك. فرغم تشريف حركة حماس للجزائر بتسهيل نجاح ” إعلان الجزائر للم الشمل الفلسطيني” لم يُقدّم لها أي دعم مادي ولا أي مساعدة،  سواء قبل الطوفان أو بعده، سوى بعض الزيارات التي لم ترق إلى الاحتفاء الرسمي في أعلى مستوى  التي نالتها حركة فتح التي خرّب قادتها المبادرة الجزائرية ( باعتراف مسؤولين جزائريين)، وكأن الذي كان مقصودا من المبادرة هو الاعتراف بالشرعية الدولية الذي طُلب منها فحسب. كما لا نكاد نجد، على الصعيد الإنساني، مؤسسة قائمة في أي مجال من المجالات شيدتها الدولة الجزائرية في غزة، خلافا لمؤسسات كثيرة ( مستشفيات، مدارس، سكنات…) ظهرت باسم دولها، ولا يُعتد ببعض المنشآت البسيطة التي أقامها محسنون جزائريون عن طريق جمعيات خيرية بميزانيات محدودة إذا قورنت بمنشآت الدول. وبعد الطوفان لم تستفد غزة المقاوِمة وغزة المنكوبة من الجزائر الرسمية، وكان السبب أن الجزائر ملتزمة بالدعم عن طريق  منظمة التحرير فقط وأن المساعدات الإغاثية الرسمية المباشرة ممنوعة من الدخول بسبب غلق معبر رفح، مع العلم بأنه لو كانت ثمة إرادة يحركها حجم المأساة وخطورة التحديات لوجد المسؤولون ألف طريقة للوصول، على شاكلة  الطرق التي كانت تُستعمل أثناء ثورة التحرير الجزائرية.

المعيار الخامس: وهو ما يتعلق بالدعم العسكري بالسلاح والتكنولوجيا والخبرات لصالح المقاومة، وهذا المجال كما هو معلوم لم تقدمه سوى ايران في وقت سابق وقد انتهى الآن ولم يخلفه الذين كانوا يلومون المقاومة عن علاقتها بإيران.

حسب هذه المعايير تجد الجزائر نفسها في المستويين الأولين وشيء من المستوى الثالث، ومن حق أي جزائري أن يفتخر بهذا المستوى، خصوصا عدم التطبيع مع الكيان الذي يعبر عن توجه عام أصيل للجزائريين  في الدولة والمجتمع، مع ما يكتنف هذا الموقف من مخاطر تمثلها أقليات كامنة في الداخل وضغوطات أمريكية مستقبلا، حسب ما يقع من تطورات في غزة. ولكن ليس من حق أي جزائري، داخل السلطة أو في المجتمع، أن يحتج على أي جزائري آخر يطلب رفع مستوى المناصرة وفق كل المعايير المذكورة أعلاه وحسب ما يتطابق مع قيمة الجزائر الثورية.

6 ـ شبهة المطلوب جمع المال فقط

يتذرع  بعض النشطاء في القضية الفلسطينية بأهمية بذل المال لها لتسفيه المناشط الأخرى والإقلال من شأنها، وهو تصرف خاطئ ومضر ضررا جسيما بالقضية الفلسطينية، والمبالغة في هذا الحديث والإصرار عليه يدخل ضمن  سلوكيات التثبيط والخذلان، بقصد أو بغير قصد،  وسنعود لاحقا لشرح مختلف الأسباب التي تؤدي إلى هذا السلوك.

لا شك أن الإنفاق في سبيل الله من أعظم الطاعات والقربات، فالزكاة ركن من أركان الدين، و”الصدقة تمحو الخطايا والسئيات كما يطفئ الماء النار” كما جاء في الحديث الصحيح، وهي بركة في الصحة والرزق وتدفع عن صاحبها أنواعا كثيرة من البلاء في الدنيا وفق ما جاء في العديد من النصوص، والحضارة الإسلامية إنما بنيت أساسا بأموال أوقاف المحسنين  في كل المجالات، ومن أعظم أنواع الصدقات في سبيل الله بالمال، فهو قرين الجهاد بالنفس في القرآن الكريم بل مقدم عليه في أغلب الآيات،  ومن ذلك قوله تعالى في سورة التوبة الآية 41:  (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُم تعلمون). وفي الآية 20: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون). وقد فسر العلماء سبب ذلك في الكثير من التفاسير ومن ذلك ما بينه الألوسي رحمه الله في تفسيره لما قال: (لعل تقديم الأموال على الأنفس لِـمَا أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعاً، وأتم دفعاً للحاجة، فلا يُتصَوَر المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالمال).

ولا فرق في الجهاد بالمال بين من غزا ومن جهز غازيا ومن دعم أهله، وقد بيّن رسول الله ذلك في هذا الحديث الصحيح العظيم:  (من جهَّزَ غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا). وعلى هذا كان قادة الثورة التحريرية يعّون الإنفاق على الحاضنة الاجتماعية المساندة لهم التي تلحق بها  الأضرار الكبيرة في الأرياف أهم من الإنفاق على من هم في الجبال (وكلاهما كان مطلوبا)، وعليه نؤكد بلا مواربة بأن الإنفاق على أهل غزة من أقدس الأعمال الصالحة في هذه المرحلة.

غير أن الشريعة الإسلامية لا تخضع لفهومنا الخاطئة مهما كانت نوايانا جيدة، كما لا تحكمها مرامينا السطحية أو أهواؤنا أو إكراهاتنا الشخصية وحبنا للعمل السهل الذي لا مخاطر فيه، فلا تُحدد الأولويات إلا بفهم مقاصدها، ولا ينتفع بها إلا من يفهم مرونتها.

إن الضرر الأعظم الذي يلحق أهلنا في غزة ويتسبب في قتلهم بالجوع والأمراض إنما هو الحصار، والذي يضعف أداء المقاومة  هو عزلهم عمّن يسندهم بالعتاد والمال والغذاء. وحتى وإن تدبرت المقاومة أمرها فإن الهلاك الذي يلحقه الاحتلال بحاضنتهم الشعبية يؤثر كثيرا في أدائها وسلامتها، وعليه فإن واجب الوقت بعد اشتداد الحصار هو كسره بالضغط على الكيان وعلى حلفائه الأمريكان والأوربيين  والعرب بقوافل كسر الحصار البحرية والجوية والبرية، وبالوقفات والمظاهرات ومختلف الفعاليات الاحتجاجية أمام السفارات الصهيونية والأمريكية والمصرية في العالم، وبتحريك الرأي العام بالعمل الإعلامي والسياسي وتعظيم أعداد المحتجين في الشوارع بالحد الذي تشغل فيه غزة العالم والناس جميعا أكثر من أي قضية أخرى.

لقد بين الإمام الكبير يوسف القرضاوي بأن فقه الأولويات مرتبط بـ “فقه مقاصد الشريعة” فمن المتفق عليه، أن أحكام الشريعة في مجموعها معللة، وأن وراء ظواهرها مقاصد هدَف الشرع إلى تحقيقها. فلا يصح في العقل ولا في الشرع ولا في أي عرف أن يكون للتحسيني الأولوية على الحاجي، ولا للحاجي على الضروري. بل للضروريات بكلياتها الأولوية المطلقة على الحاجيات والتحسينيات”

إن نجدة  الغزيين في أكلهم وشربهم ودوائهم ومسكنهم وتعليمهم  واجبة ولكن هذا الواجب لا يتحقق إلا بكسر الحصار. فكسر الحصار هو المقصد وهو مقدم في سلم الأولويات على غيره، ضمن ما تبينه قاعدة “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، التي يقول بشأنها الإمام القرافي: (وعندنا وعند الجمهور، ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وهو مقدور للمكلف فهو واجب لتوقف الواجب عليه)

فالمواد الإغاثية من مختلف جهات العالم مكدسة في معبر رفح، ولكن أكثرها ممنوع من الدخول إلى غزة بسبب الحصار، وما يدخل منها لا يسمن ولا يغني من جوع، فالأولى إذن هو العمل على كسر الحصار. وحينما نقول الأولى لا يعني هذا التوقف عن جمع المال والمساعدات، بل وجوبها يظل قائما في كل وقت، وإنما ما يجب بذل المال والوقت والجهد  فيه أكثر هو  كسر الحصار وتوعية الناس بالمآسي التي يتسبب فيها، وتوجيه الجماهير للاحتجاج في الشوارع لرفع معنويات المظلومين والضغط على  الظالمين من الأمريكان وعملائهم وعبيدهم من بلادنا العربية والإسلامية.

إقرأ أيضا: المَسِيرات من أجل فلسطين.. الشبهات، أسباب المنع والتخذيل، وعظمة النفع (1)
التعليقات (0)

خبر عاجل