قضايا وآراء

مقاومة الاستعمار تبدأ بمحو الاستبداد

أحمد عبد الحليم‎
"اجتمعت قوى هيمنة الاستبداد والاستعمار معا على الشعوب العربية"- جيتي
"اجتمعت قوى هيمنة الاستبداد والاستعمار معا على الشعوب العربية"- جيتي
في منطقتنا العربية، نعيش سنوات شديدة، ألما سياسيا واقتصاديا وثقافيا، ذاتيا وجماعيا، حيث عانت الشعوب من إفقار مُتعمَّد بسبب سياسات أنظمتها الاقتصادية (مصر مثالا)، فضلا عن القمع السياسي الذي لم يمارسه أي نظام ما قبل حكم عبد الفتاح السيسي. كذلك الحال في الأردن والسعودية ولبنان وتونس واليمن وسوريا وليبيا، بلدان وشعوب مُنهكة ومتعبة ومسجونة ولاجئة ومَنفية خارج بلادها.

بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ومع بدء الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، فضلا عن العمليات العسكرية والاستيطان في الضفة الغربية، وبدء الحرب وتوسعها في لبنان، وإلى الآن مع استمرار الخروقات الإسرائيلية بالقصف واحتلال القرى الحدودية، بالإضافة إلى القصف الإسرائيلي والتوغل بريا داخل سوريا قبل وبعد سقوط نظام الأسد.. في هذه اللحظة، اجتمعت قوى هيمنة الاستبداد والاستعمار معا على الشعوب العربية، فلم تعد هذه الشعوب تفهم كيفية الخلاص من كل هذا القهر الواقع عليها، من الاستبداد والاستعمار. وهذه الإشكالية طالما طُرحت بزاوية أُحادية من قبل أنظمة وحركات ادَّعت أن الاحتلال الإسرائيلي ومن ورائه الهيمنة الإمبريالية هما السبب الرئيسي في كل الإشكاليات الكونية التي تواجه الشعوب، والخلاص من هذا الاحتلال هو خلاص من الهيمنة والعيش بحرية.
لم تعد هذه الشعوب تفهم كيفية الخلاص من كل هذا القهر الواقع عليها، من الاستبداد والاستعمار. وهذه الإشكالية طالما طُرحت بزاوية أُحادية من قبل أنظمة وحركات ادَّعت أن الاحتلال الإسرائيلي ومن ورائه الهيمنة الإمبريالية هما السبب الرئيسي في كل الإشكاليات الكونية التي تواجه الشعوب، والخلاص من هذا الاحتلال هو خلاص من الهيمنة والعيش بحرية

لطالما تاجرت بهذا أنظمة مثل البعث السوري والوليّ الإيراني وحركات علمانية وشيوعية ودينية، مثل الأحزاب القومية والشيوعية في سوريا ولبنان والأردن، وحزب الله في لبنان، ولم تكن هذه الأنظمة والحركات سوى قامعة لشعوبِها ومجتمعاتها، فقد عاش نظام البعث أكثر من 50 عاما مُتغذّيا على سردية تحرير فلسطين، وهو بنفسه من قام بقتل الفلسطينيين وحصارهِم وتجويعهم في المخيمات (مخيم تل الزعتر في لبنان- 1976، ومخيم اليرموك- 2012)، كما دائما ما لوّح حزب الله باستخدام العنف وعودة الحرب الأهلية حين تعلو أصوات مطالبة بإسقاط نظام الطوائف اللبناني. وانتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019، كانت مثالا واضحا على أن حزب الله لا يُريد أي إصلاح في لبنان، وأن الهيمنة الاقتصادية والسياسية المُقسَّمة على ملوك الطوائف والحرب الأهلية، وهو من بينها، شيء مُرض له تماما، مع حفاظه على سردية مقاومة الاحتلال وتحرير فلسطين، وهي سردية صحيحة بالممارسة التاريخية، لكنه حزب استبدادي، بما أنه جزء مهيمن قبل أن تضعف هذه الهيمنة -بفعل الضربات الإسرائيلية- على الدولة اللبنانية، فضلا عن تاريخ الحزب في التخوين والترهيب والاغتيالات من قبل آلته الإعلامية والعسكرية.

أما في مصر، فلولا نظام السيسي الاستبدادي، لما كان المصريون تعرضوا لكل هذا القمع في الميادين والسجون والمنافي، وبالرغم من الدعم الذي جاء من قوى إمبريالية مثل الولايات المتحدة الأمريكية، بالاعتراف الدولي والمساعدات والصفقات العسكرية، وهو ما ساعده في تثبيت شرعيته، ومن ثم الهيمنة والبقاء في الحكم، لكن هذا لا ينفي أو يتعارض، فقتل المئات يوم اعتصام رابعة العدوية في ساعات قليلة كان بقرار مصري لا استعماري. حتى خذلان أهل غزة خلال إبادتهم من قبل إسرائيل، كان محرّكه الرئيس السياسات الداخلية للاستبداد، لا قوى خارجية، ربما تدعمه أو لا تدعمه حسب السياق السياسي والإقليمي. كذلك عشرات الآلاف من المعتقلين في السجون، ومنهم المئات بسبب دعم فلسطين، وعشرات الآلاف مثلهم في المنافي، لا يمنعهم من الحرية والعودة إلى أوطانهم سوى نظام السيسي، لا الكونجرس الأمريكي.

لم يكن الحال في الأردن مختلفا كثيرا من حيث العقلية الاستبدادية والأمنية التي تحكم الحياة، والتي عملت خلال العقود الماضية على تفكيك أي وجود للمقاومة ضد إسرائيل، وبات يُعرف الأردن بمدى قوة تنسيقه الأمني مع إسرائيل، تنسيق مُمتد من الأردن حتى الضفة الغربية. آخر عمليات هذا التفكيك هو القبض على شباب أردنيين أسموهم "خلية" تعمل من أجل تهديد "الأمن القومي" الأردني.

لم يكن الاستعمار هو الذي يراقب ويُعاقب ويُرهب ويسجن ويقتل، بل الأنظمة العربية الاستبدادية هي التي -وبكل قناعة- تفعل كل ذلك، وتطبّع وتنسق مع إسرائيل من أجل استقرارها وحمايتها.

لكن، أنظمة مصر والأردن والسعودية والإمارات والمغرب لم تقل إنها تعادي إسرائيل وتُقاومها، بل هي، وبكل صراحة معلنة، في سلام وتطبيع وتنسيق معها، فمن صنع أسطوانة محاربة الاستعمار الإمبريالي، بغض النظر عن الاستبداد المحلي، هو نظام عبد الناصر، ومن بعده جاءت لمنافسة أنظمة البعث العراقي والسوري، ومن ثم لحقت بهم إيران بعد ثورتها، والحركات التابعة لها في المنطقة، أبرزهم جماعة أنصار الله في اليمن وحزب الله ولبنان، إذ هي، وبشكل دائم، تحرّض جمهورها حيال غضِّ النظر عن الفساد والسجون والاغتيالات والهيمنة، وكل هذا من أجل مقاومة الاستعمار، ولا أحد يخرج ليقول: ما الذي سيُفسده تطبيق الحريات والعدالة والشفافية وتداول السُلطة في مسألة مقاومة الإمبريالية؟ أين التعارض؟ فكلما كان الشعب العربي حرّا قاوم إسرائيل، فلم تكن إسرائيل في لحظة وجودية خطيرة كالتي شعرت بها حين انتصرت الثورات العربية، لا سيما في مصر، لكن هذه الأنظمة وجماعاتها، لا تريد سوى سرديتها ولا تقبل أي اختلاف معها.

استعادة القيم الإنسانية والسياسية العادلة، كما أنها تُهدم في سنوات، أيضا تحتاج إلى سنوات كي يعاد بناؤها مرة اُخرى. آفة منطقتنا الاستبداد، ومُقاومته هو بداية استعادة كل شيء، كل قيمة تحررّية للأرض والإنسانية

في لبنان، لا سيما بعد السابع من أكتوبر، لم يكن خطاب حزب الله متغلغلا داخل مجتمعه الشيعي فحسب، بل حتى في أوساط، أو بمعنى أوقع، بقايا أوساط لما كانوا يُعرفون بـ"القوميين واليساريين" العرب، يتامى التنظيم والأيديولوجيا. فلم تعد تستطيع التفرقة بين خطاب الشيعي من الشيوعي، إذ كل ما يقوله الشيوعي هو خطاب مُشيّع بامتياز، بل هم الآن يتحدثون عن حزب الله في واقعه اللبناني، كأنّه أصبح مجموعة مكونة من بضعة أفراد، أناركيين، يحملون سلاحا خفيفا ويقاومون إسرائيل، من ظل الجبال، خائفين من الحكومة اللبنانية التابعة للهيمنة الإمبريالية، والتي دائما ما توجّه لها الشتائم على خروقات إسرائيل للاتفاق، وكأنها هي التي أبرمت الاتفاق لا حزب الله مُفوضا نبيه بري، وأنه واقعيا سلاح الدولة دائما ما كان أضعف من سلاح حزب الله.

كذلك تعامُوا كلية عن توجيه أي أسئلة لحزب الله منذ بداية الحرب إلى الآن، مثل، لماذا دخل الحرب ولم يتعد قواعد الاشتباك، ويستبِق ويساند غزة بشكل أقوى؟ ومن أين أتى كل هذا الاختراق الإسرائيلي داخله؟ لماذا وافق نصر الله، قبل اغتياله، على فك ارتباط الجبهات؟ لماذا وافق الحزب على وقف إطلاق النار مع إسرائيل؟ لماذا لا يرد الآن على اختراقاتها؟ لماذا لم يسع بما أنّه جزء أساسي من الدولة، للإفراج عن الشباب الفلسطيني المقاوم المقبوض عليهم؟ ولماذا إيران، وهو جزء عضوي منها، تتفاوض مع الولايات المتحدة؟ وهل سيقدّم الحزب مراجعاته حيال سنوات تدخله في سوريا مع حليفه الأسد، قبل سقوطه؟ لكنهم مُنشعلون بترديد شعارات "الموت لأمريكا" وإسرائيل "شرٌ مطلق"، وهكذا من بديهيات ملَّ العقل العربي من تكرارها، دون أي عمل حقيقي يُسائل وينظم ويبني، ويثور على الحكومة اللبنانية إن اتجهت نحو التطبيع، بل ويسعى بشكل حقيقي نحو التحرر من الهيمنة الداخلية والخارجية معا.

نهاية، ربما في هذه اللحظة تحديدا من واقع الشعب العربي، يجب السعي نحو إدراك حقيقي لما آلت إليه الأمور، وأن يُنظم أو يُعيد العرب تنظيم أنفسهم من جديد في وجه كل مفاصل الاستبداد، في البلديات والنقابات والمجالس النيابية واتحادات الطلاب والأحزاب، وكل ما تتركه السُلطة كمساحة عمل يجب استغلالها وملؤها بالأصوات السياسية والأخلاقية الحرّة التي تقاوم. استعادة القيم الإنسانية والسياسية العادلة، كما أنها تُهدم في سنوات، أيضا تحتاج إلى سنوات كي يعاد بناؤها مرة اُخرى. آفة منطقتنا الاستبداد، ومُقاومته هو بداية استعادة كل شيء، كل قيمة تحررّية للأرض والإنسانية.
التعليقات (0)

خبر عاجل