كتب

بناء نظام إقليمي شرق أوسطي جديد أمريكي ـ صهيوني.. قراءة في كتاب

النظام الإقليمي الشرق أوسطي الأمريكي ـ الصهيوني الذي سيرسم بالكثير من الحروب والدم والدمار والعمليات الجراحية، سيقف (إذا ما استكمل حلقاته) على رجلين من طين، سواء بسبب هشاشة البنى الإمبرطورية الصهيونية، أو بفعل الأزمات الداخلية الأمريكية..
النظام الإقليمي الشرق أوسطي الأمريكي ـ الصهيوني الذي سيرسم بالكثير من الحروب والدم والدمار والعمليات الجراحية، سيقف (إذا ما استكمل حلقاته) على رجلين من طين، سواء بسبب هشاشة البنى الإمبرطورية الصهيونية، أو بفعل الأزمات الداخلية الأمريكية..
الكتاب: انفجار المشرق العربي: من تأميم قناة السويس إلى غزو العراق1956-2006
الكاتب: د. جورج قرم
الناشر: دار الفارابي (863 صفحة من القطع الكبير)


يواصل الكاتب والباحث التونسي في الشؤون الفكرية والسياسية توفيق المديني في الجزء الثاني وهو الأخير من قراءته لكتاب "انفجار المشرق العربي: من تأميم قناة السويس إلى غزو العراق1956-2006"، للدكتور جورج قرم، متابعة تفاصيل وآليات سعي الولايات المتحدة الأمريكية بسط هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط.

في القسم الرابع وهو الأخير من هذا الكتاب الضخم، يتعرض المفكر جورج قرم إلى عدة محاور، وفي طليعتها بسط الهيمنة الأمريكية ـ الصهيونية على إقليم الشرق الأوسط، في ظل العصبية الصهيونية بقيادة بنيامين نتنياهو التي تريد بناء نظام إقليمي شرق أوسط جديد، يحل مكان نظام سايكس بيكو الاقليمي القديم، وسيكون نظاما أمريكيا- صهيونيا صافيا، لا وجود فيه لقوى المثلث الذهبي الحضاري التاريخي: المصري (العربي) والتركي والإيراني، التي كانت في أساس كل تاريخ وحضارة إقليم المشرق المتوسطي.

هذا المخطط الأمريكي ـ الصهيوني ليس جديدا، فمنذ غزو العراق واحتلاله، واحتمال خوض حرب أخرى مع إيران، تأتي ضمن هذا السياق، أي إنَّ تفتيت العراق، ونشر الفوضى والحرب الأهلية فيه، لم يكونا مما لم تتوقعه الإدارة الأمريكية حين غزتْ العراق، بل إنَّ ذلك هو الهدف الذي سعى إلى تحقيقه الكيان الصهيوني وأصدقاؤه المحافظون الجدد، في إطار إعادة صياغة الشرق الأوسط على نحو ييسِّر السيطرة عليه والتلاعب بمقدّراته.

وكان مجرم الحرب الصهيوني آرييل شارون، قبل القيام بغزو لبنان في حزيران/ يونيو 1982، قد كتب خطابا رسم فيه تصورا جديدا لدور الكيان الصهيوني في الشرق الأوسط. وكان هذا التصور يمثل تحولا جذريا عن الفهم التقليدي لحاجة الكيان الصهيوني إلى حماية نفسه من جيرانه المعادين، وقد أثار ذلك التصور دهشة واستغراب بعض المعلقين الصهاينة. ولا يمكن تحقيق تصور شارون من دون انفراد الكيان الصهيوني بامتلاك الأسلحة النووية في الشرق الأوسط، أو إقامة تحالف وثيق مع الولايات المتحدة.

وقد نُشر الخطاب في صحيفة معاريف الصهيونية، وطرح فيه شارون فلسفة أمنية جديدة للكيان الصهيوني، لم يعُدْ الكيان الصهيوني بموجبه  يفكر بشروط السلام مع جيرانه، أو بمحاربة خطر المواجهة المباشرة مع الدول العربية على حدوده. وبدلا من ذلك أصبح يسعى إلى توسيع دائرة نفوذه لتشمل المنطقة بأسرها.

يقول شارون في خطابه: "وراء الدول العربية، في الشرق الأوسط وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط، يجب علينا أن نوسع مجال اهتمامات "إسرائيل" الاستراتيجية والأمنية في الثمانينيات، لتشمل دولا مثل تركيا، وإيران وباكستان، ومناطق مثل الخليج العربي وأفريقيا، ودول شمال أفريقيا بخاصة".

إلى متى تستطيع الإمبريالية الأمريكية البقاء في المنطقة (بعيدا عن الباسيفيك الذي أصبح محور العالم) لرعاية هذا المشروع الإقليمي الشرق أوسطي، لا سيما بعد أن أثبتت حروب الإبادة الأمريكية ـ الصهيونية ضد فصائل محور المقاومة في كل من غزَّة ولبنان واليمن، (ولاحقا ربما حرب إيران والعراق) أنَّ القوةَ الصهيونيةَ عاجزة بمفردها عن القيام بدور شرطي الإقليم.
ويعتمد نجاح "إسرائيل" في ذلك، كما قال شارون، على "تفوق نوعي وتكنولوجي حاسم" في الأسلحة العسكرية، وبخاصة عزمنا على منع دول المواجهة أو الدول التي قد تصبح دول مواجهة من الحصول على أسلحة نووية". وسرعان ما أصبح يُعرَف هذا التصور لـ "إسرائيل" كقوة إقليمية عظمى، باسم "مبدأ شارون"، كما أنه أثار انتقادات واسعة. فقد كتب مراسل صحيفة عل هامشمار "الإسرائيلية" اليسارية، تسفي تيمور؛ إنَّ شارون يقترح إقامة "امبراطورية صهيونية".

فلم يكن تصور شارون للكيان الصهيوني كإمبراطورية في الشرق الأوسط، هو التصور الوحيد الذي تتداوله المؤسسة الأمنية الصهيونية في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، فقد اقتُرحت خطة أكثر طموحا وأبعد مدى للمنطقة، ضمن مقالة نشرتها المنظمة الصهيونية العالمية باللغة العبرية في شباط/فبراير 1982، وقد كتبها الصحفي الصهيوني أودين يينون، وكان من كبار المسؤولين في وزارة الشؤون الخارجية، مما يعني أنه كان يتمتع بعلاقات وثيقة بجهاز الاستخبارات الصهيوني الموساد.

وفي هذه المقالة التي تحمل عنوان "استراتيجية لـ"إسرائيل" في الثمانينيات"، دافع يينون عن تحويل الكيان الصهيوني إلى قوة إقليمية امبراطورية، منسجمة إلى حدٍّ كبير مع الخط الذي طرحه مبدأ شارون، ولكنَّه أضاف هدفا آخر، هو تفتيت العالم العربي إلى فسيفساء من الجماعات الإثنية والدينية المتناحرة، التي يمكن التلاعب بها بسهولة من أجل خدمة المصالح الصهيونية.

أمَا أستاذ العلوم السياسية في جامعة بير زيت، في الضفة الغربية، صالح عبد الجواد، وهو أحد المتخصصين الفلسطينيين القليلين في دراسة الحركة الصهيونية، فيقول؛ إن بن غوريون، كان قد وضع نظريتين تكميليتين بشأن كيفية تقويض القومية العربية: "نظرية التحالف مع الدول المحيطة"، وتتطلب قيام الدولة اليهودية بعقد تحالفات مع الدول الأخرى المعارضة للقومية العربية في الشرق وفي الغرب، من أجل خلق صراع دموي بيْن"نا" وبين"هم"، صار يُعرف فيما بعد باسم صراع الحضارات، بينما تتطلب "نظرية التدعيم" أن تنشئ الدولة اليهودية طوقا من الدول المعادية حول الدول العربية، بإقامة علاقات استراتيجية مع تركيا، والدول الأفريقية مثل إثيوبيا، وإيران (قبل ثورة 1979) والهند. وكتب عبد الجواد: "انطلاقا من ذلك، دأب الكيان الصهيوني على دعم الحركات الانفصالية في السودان، والعراق ومصر ولبنان، وأي حركات انفصالية في العالم العربي الذي يعتبره الكيان الصهيوني عدوّا".

وكانت محاولات بن غوريون الدؤوبة لإقناع الولايات المتحدة بفوائد إقامة تحالف سرِّي بين الكيان الصهيوني والدول المحيطة بالعالم العربي، إيران وتركيا وإثيوبيا في أواخر خمسينيات القرن الماضي، قد ظفرتْ بالتأييد في نهاية المطاف أواخر سنة 1958. وأدرك بن غوريون أن هذا التحالف يمكن أن يضع الكيان الصهيوني في قلب خطط أمريكا للشرق الأوسط، فلم يعد الكيان الصهيوني بلدا صغيرا منعزلا، بل الرائد وحلقة الوصل بين مجموعة من الدول، التي يتجاوز عدد سكانها مجموع عدد سكان الدول العربية.

أما في ما يتعلق بالعراق وإيران، فهنالك تاريخ طويل من تدخل الموساد الخفي، الذي يعود إلى عشرات السنين الماضية. وعلى سبيل المثال، بدأت الحركة الصهيونية العالمية قبل قيام دولة "إسرائيل" تطوير علاقات مع الأكراد في العراق منذ عشرينيات القرن الماضي.

يقول عبد الجواد: "في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي، أصبح الكيان الصهيوني المصدر الرئيسي للأسلحة والتدريب العسكري للأكراد في قتالهم ضد الحكومة العراقية المركزية. ورغم أن التفاصيل الكاملة لم تكشف بعد، إلا أنَّ الألوف من عملاء الموساد وأفراد جيش الاحتلال الصهيوني كانوا يتمركزون في أرجاء شمال العراق، تحت أغطية مختلفة (مستشارين عسكريين، وخبراء زراعيين، ومدربين، وأطباء).

وقد لوحظت هذه الممارسة مرَّة أخرى بعد الغزو الأمريكي للعراق، عندما أشارت تقارير الصحفي سيمور هيرش وغيره إلى وجود عملاء صهاينة في المناطق الكردية.

وبالمثل، يمكن رؤية تدخل الموساد العميق في إيران منذ خمسينيات القرن الماضي. وقد تشكلت بداية علاقة الكيان الصهيوني مع الشاه، عندما عمل جهاز الموساد، بالتنسيق مع المخابرات البريطانية والأمريكية، على إسقاط الزعيم الإيراني المنتخب ديمقراطيّا، محمد مصدق، سنة 1953، وقد مكنت العلاقة التي أقيمت مع الشاه، إيران من أن تصبح المستورد الرئيسي للمنتوجات الصهيونية حتى ظهور الإمام الخميني. كما أدى الكيان الصهيوني دورا في تدريب السافاك، جهاز الاستخبارات الإيراني الوحشي الذي كان يحمي الشاه.

المخطط الأمريكي ـ الصهيوني ليس جديدا، فمنذ غزو العراق واحتلاله، واحتمال خوض حرب أخرى مع إيران، تأتي ضمن هذا السياق، أي إنَّ تفتيت العراق، ونشر الفوضى والحرب الأهلية فيه، لم يكونا مما لم تتوقعه الإدارة الأمريكية حين غزتْ العراق، بل إنَّ ذلك هو الهدف الذي سعى إلى تحقيقه الكيان الصهيوني وأصدقاؤه المحافظون الجدد، في إطار إعادة صياغة الشرق الأوسط على نحو ييسِّر السيطرة عليه والتلاعب بمقدّراته.
يتساءل الخبراء في إقليم الشرق الأوسط، إلى متى تستطيع الإمبريالية الأمريكية البقاء في المنطقة (بعيدا عن الباسيفيك الذي أصبح محور العالم) لرعاية هذا المشروع الإقليمي الشرق أوسطي، لا سيما بعد أن أثبتت حروب الإبادة الأمريكية ـ الصهيونية ضد فصائل محور المقاومة في كل من غزَّة ولبنان واليمن (ولاحقا ربما حرب إيران والعراق)، أنَّ القوةَ الصهيونيةَ عاجزة بمفردها عن القيام بدور شرطي الإقليم لاعتبارات ديموغرافية، وصناعية عسكرية، وثقافية (عجز جل المستوطنين الصهاينة عن التعايش مع شعوب وثقافات المنطقة).

والخلاصة؟ ربما هي واضحة: النظام الإقليمي الشرق أوسطي الأمريكي ـ الصهيوني الذي سيرسم بالكثير من الحروب والدم والدمار والعمليات الجراحية، سيقف (إذا ما استكمل حلقاته) على رجلين من طين، سواء بسبب هشاشة البنى الإمبرطورية الصهيونية، أو بفعل الأزمات الداخلية الأمريكية العنيفة المتوقعة (بسبب انقلاب العولمة على سيدها الأمريكي).

لكنَّ، وفي حال لم تتحرك قيادات المثلث الذهبي (مصر وإيران والمملكة السعودية) هنا والآن وتطلق مشروعها الإقليمي ـ الحضاري الخاص لمواجهة المشروع الإقليمي الجديد الأمريكي ـ الصهيوني، سيكون إقليم الشرق الأوسط على موعد مع الحروب الطائفية والمذهبية، وآلام مخاض ولادة عنيفة لدويلات الطوائف القائمة على أسس دينية ومذهبية وعرقية في كل من لبنان وسوريا والعراق وإيران، وطرد الفلسطينيين من داخل الكيان الصهيوني، ومن المناطق الفلسطينية المحتلة، بحيث يتسنى ضم ما تبقى من أجزاء فلسطين التاريخية إلى الكيان الصهيوني.

ويمكن تفسير اهتمام زعيم الفاشية الإمبريالية الأمريكية دونالد ترامب، وزعيم الفاشية الصهيونية بنيامين نتنياهو بالاستيلاء على سيناء من مصر، بهدف تهجير فلسطينيي قطاع غزَّة بالقوة العسكرية إلى خارج حدود "إسرائيل" الكبرى، وتوطينهم في سيناء.. وحسب مخطط التهجير الأمريكي ـ الصهيوني، تُشَكِّلُ  سيناء مساحة يمكن استغلالها لاستيعاب النمو السكاني بين فلسطينيي غزَّة، أو حتى تقديم حل دائم لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين.

وفضلا عن ذلك، تذهب العصبية الصهيونية الفاشية المدعومة من الإمبريالية الأمريكية إلى الرغبة في تدمير النظام الأردني، لخلق إمكانيات جديدة لتوطين الفلسطينيين من الضفة الغربية؛ فالعصبية الصهيونية الفاشية تريد أن تكون سياسة الكيان الصهيوني في الحرب والسلم تحقيق القضاء على الأردن ونظامه الحالي، وتسليمه للأغلبية الفلسطينية، لإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة، بدلا من حل الدولتين (العزيز على قلوب الحكام العرب المستسلمين والمهزومين والتابعيين للإمبريالية الأمريكية، والمتحالفين مع الكيان الصهيوني)، الذي دفنه ترامب ونتنياهو في مقبرة التاريخ.

اقرأ أيضا: سيطرة العصبية الصهيونية الفاشية على الشرق الأوسط المعاصر.. قراءة في كتاب
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم