يؤكد
د. طه جابر العلواني في تصديره لكتاب "
فقه الأولويات: دراسة في الضوابط"
للكاتب محمد الوكيلي بحق؛ أن "الذي يجعلنا نولي في هذا الأمر العناية التي يستحقها
أن مدخل الأولويات من المداخل المركبة التي يتداخل فيها السمع والعقل، والعرف والتجربة
والخبرة، وكثير من العلوم الاجتماعية والإسلامية، التي يمكن أن تعين على تحليل الماضي،
وفهم الحاضر واستشراف المستقبل ليتم بمقتضى ذلك تحديد ما هو أولوي.. إن إدراك الأولويات
لم يعد ممكنا من خلال مدخل واحد أو تخصص واحد، بل لا بد من مقاربته من مداخل عديدة
وتخصصات مختلفة، بل والنظر إليه على أنه علم له أصوله وقواعده وجوانبه العديدة، ومن
الغبن لهذا العلم أن يحصر في دائرة علم أو يحشر في ثنايا مباحث..".
ولو
تفحصنا الجملة السابقة نجدها تشكل تحديدا للفعل طبيعة ومجالا وطرائق وأساليب واتجاهات
ومواقف، هذه الأمور تعبر عن نسق على تركيبه يبدو مبسطا بالنسبة لرؤية الواقع في حالة
الحركة، ومن ثم فإن قولنا إن النهج المقاصدي قرين الحركة الاجتهادية المتكاملة، ليس
فيه من المبالغة فهو يعني في الحقيقة
الانتقال إلى الحركة الاجتهادية الدائبة (من مجرد
مجال الأفعال الحضارية، إلى قيم الأفعال الحضارية وترتيباتها ومراعاة عناصرها الثابتة
في كل فعل وكل حركة)، إنها الحركة التي تقوم على تكييف الفعل ووزنه؛ الميزان الحضاري
ضمن هذه الرؤية يحاول تكييف الأفعال ما بين مستويات مرتبة تنبئ عن قدرات منهاجية شديدة
الدقة والفاعلية في آن، والأفعال ترتبط بقيم أشياء ومواقف وأشخاص وأحداث، على تداخل
هذه المجالات وتفاعلها.
أولويات الشرع، وأولويات الواقع وفق مناهج النظر والتناول والتعامل التي تتسم بالشمول والسلامة يجب ألا تتعارض؛ فزاوية النظر للأولوية تختلف باختلاف المعايير المتكاملة، التي تكون في النهاية الصورة الكلية، وهي تحرك عناصر أولوية يجب أن تؤخذ في الاعتبار، ذلك أن وضعها ضمن منظومة أولويات ساكنة، غير تحريكها وحراكها، غير تفاعلها مع واقع تتبدل حوادثه وتتجدد نوازله
إن تصميم خارطة لأولويات الأمة في مسيرتها الحضارية يجب أن
يتحرك صوب عناصر الاجتهاد الجماعي، والمؤسسي، والشورى البحثية والجماعية، والتضافر
بين الجهود والتخصصات والقيام بالدراسات المكثفة لسائر الجوانب الفاعلة والمؤثرة في
حياة الأمة، السياسية منها والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، واستعمال سائر العلوم
الإنسانية والاجتماعية أو رصيد الخبرات والتجارب الإنسانية للوصول إلى تحديد مناسب
لأولويات الأمة في مرحلة زمنية محددة. ومن هنا فإنه من التبسيط حقا اختزال هذا الأمر
وحصره في الدائرة الفقهية أو أية دائرة أحادية البعد. والنظر الذي يتطرق إلى الأولويات
من زاوية واحدة هو في الغالب نظر قاصر، ذلك أن موضوع الأولويات لا يتطلب فقها نظريا،
بل يرتبط بدوائر مهمة تتعلق بالواقع وفهم خريطته، بل خرائطه.
وواقع الأمر أن أولويات الشرع، وأولويات الواقع وفق مناهج
النظر والتناول والتعامل التي تتسم بالشمول والسلامة يجب ألا تتعارض؛ فزاوية النظر
للأولوية تختلف باختلاف المعايير المتكاملة، التي تكون في النهاية الصورة الكلية، وهي
تحرك عناصر أولوية يجب أن تؤخذ في الاعتبار، ذلك أن وضعها ضمن منظومة أولويات ساكنة،
غير تحريكها وحراكها، غير تفاعلها مع واقع تتبدل حوادثه وتتجدد نوازله.
إن النموذج المقاصدي يُعتبر وبحق أحد أهم محاضن علم الأولويات،
معتمدا عليه في سياق تكوين الرؤية المقاصدية التي قامت على أساس من التوصيف والتصنيف
والترتيب، بحيث ارتبطت هذه الحلقات الثلاث في نسق توظيف عام يقوم على تفعيل وتشغيل
هذه الوحدات بما يستصحب فقه الأولويات عند كل عملية إذا ما أريد التسكين أو التقويم.
يبرز ذلك في التحديد المجالي وفقا لقواعد ترتيب، وطبيعة الأفعال وتوصيفها وفقا لقواعد
المراتب التي تنتمي إلى دوائر الضروري فالحاجي فالتحسيني.
في
المقال السابق كان فقه المرحلة هو المدخل لعمليات الانتقال في مشروع الانبعاث الحضاري؛
وفي هذا المسار يُعد فقه الأولويات في المسيرة الانتقالية من أهم المداخل التي تتطلب
تفكيرا وتدبيرا وتغييرا وتأثيرا ضمن ساحة إدارة
التغيير واستلهامها في طريق التسيير.
إن هذه اللحظة الفارقة هي فرصة لتفريغ مركب ديني وحضاري، ويتوجب على من يدرك هذه المتطلبات
أن يسعى لبذل أقصى الوسع لتحقيق التغيير، مع اليقين بأن الاختيار والتدبير المطلق هو
لله سبحانه.
إن
عملية الانتقال الحضاري ليست مجرد تتابع زمني بسيط، بل تمر بمراحل شرطية (شُرطية) متداخلة،
يتم فرز شروطها وتصنيفها على أساسها. وتُعرف أربع مراحل رئيسة لهذه العملية: استهلال
صعود الانبعاث وصدارته، وتقوية مرتكزات الانبعاث، وتفعيل وتحصين مشروع الانتقال، وأخيرا
بدء المسيرة الحضارية. وتظل مسألة رصد مدى تحقق الشروط الخاصة بهذه المراحل تتسم بالتفاوت
في الواقع المعيش.
أولويات العمل في المراحل الأولية:
في المراحل
الأولية للانتقال (مرحلتي البدء وتقوية المرتكزات)، تُركز الأولويات على:
1.
البناء المرتكز على المعرفة: تأسيس مرتكزات معرفية خالصة ومستقلة، خاصة في مجال التعليم،
وهو المجال الحرج الذي تُصاغ فيه عقول النشء. ويجب أن تكون النماذج البنائية منطلقة
من تعريفات إسلامية، ساعية للتحرر من التبعية والالتباس، خاصة مع النماذج العلمانية
الغربية. ويُركز على المعيش المستقل كالحياة الزوجية والعمل والتعليم.
عملية الانتقال الحضاري ليست مجرد تتابع زمني بسيط، بل تمر بمراحل شرطية (شُرطية) متداخلة، يتم فرز شروطها وتصنيفها على أساسها. وتُعرف أربع مراحل رئيسة لهذه العملية: استهلال صعود الانبعاث وصدارته، وتقوية مرتكزات الانبعاث، وتفعيل وتحصين مشروع الانتقال، وأخيرا بدء المسيرة الحضارية
2.
التدافع الحضاري: إعداد منظومة تدافع شامل ضد الهجوم المتوقع على المشروع وحملته الفريدة، سواء كان
هجوما ناعما أو خشنا. ويتطلب هذا من أوائل الحملة خوض جو التدافع المفعم بصلابة الإيمان والروح الجهادية، وحرصهم على استغلال
نقاط ضعف الخصوم المتجددة.
3.
علاج التفريط والتحرر من الهيمنة: يجب علاج مظاهر التفريط المتعلقة بالهشاشة الفكرية،
وتشويه مفهوم الأمة، وتدهور الأوضاع الاجتماعية الأساسية. أما التحرر، فيتم عبر تجلية
أصل الهيمنة الحضارية وأعماقها ورسم خرائط التبعية التي تخضع لها الأمة، والعمل على
بناء أنماط حياة جديدة ومختلفة في المساحات الشخصية والوسيطة، مدعومة بشبكات حماية
جماعية، لتكون منطلقا لاستقلال الإرادة والعقل.
ويُركّز
المسعى الحضاري على تطوير وتفعيل ثنائية الواقع والفعل؛ هذه الثنائية تشكل التزاما
على الإنسان الساعي إلى الرشد، حيث يجب عليه أن يدرك الواقع المتعين إدراكا دقيقا،
وأن يطلق اليقين اللازم عبر إطلاق المشيئة الفاعلة، مع وعي كامل بحدود الأدوار. ولا
يمكن لهذا الانتقال أن يبدأ إلا بتهيئة سياقات واقعية، وتوفير المُمَكِّنات التي تعزز
القوى الفاعلة وتستنفرها كمحفز للمسيرة.
وفي قلب
علم الأولويات تقع كما أسماها الدكتور حسين القزاز "الشروط التعريفية الثلاثة
لبَدْء المسيرة"؛ لكي تنطلق مسيرة الانتقال الحضاري بالفعل، يجب أن تتوفر وتتفاعل ثلاثة شروط تعريفية رئيسة:
1. عجز
الحلول الجزئية والوعي الحرج: يتمثل هذا الشرط في وصول الجوهر الديني للمهمة الأساسية
للأمة إلى طريق مسدود، ويحدث ذلك عندما يقع تهديد حقيقي على حصانة المقدسات والمحرمات،
وهي خطوط الدفاع الأخيرة. هذا العجز يتطور إلى "الوعي الحرج"، وهو وعي عميق
بضرورة تغيير جذري، ناتج عن الانتباه لعمليات التدهور الحثيثة، وإدراك بأن هذا العجز
ناجم عن تفريط من داخل الأمة بالتزامن مع هجمة من الآخر. ويُعتبر هذا الوعي، الذي يتفجر
في لحظات المواجهة الكبرى، عاملا حاسما لتأهيل الأمة لريادة التغيير.
2. غرس
بذور التشكيلة الفريدة الجديدة: يستوجب هذا الشرط انتداب مجموعات من أبناء الأمة ليكونوا
"أوائل الحملة"، أي القادرين على ريادة تعريف المهمة الدينية الفريدة الجديدة.
يجب على هذه الأجيال أن تتبنى مشروع الانبعاث الحضاري وتجعله مرتكزا لحياتها، وأن تتمترس
بمقومات قوة ذاتية.
3. تبلور
ملامح واضحة لمسارات العمل المطلوب: يُعد تبلور مسارات العمل متطلبا رئيسا لإطلاق العمل
الإبداعي التجديدي والأصيل. هذا العمل يجب أن ينطلق من إركاز جذور عقدية توحيدية ونماذج
حضارية إسلامية، ويمثل انقلابا في منحنيات الفكر والحركة. ويتطلب هذا التبلور استيعابا
معرفيا عميقا لمفاتيح رؤية الانبعاث، وقراءة ملمة ومستبصرة للواقع المعاصر وملامحه
الاستراتيجية، وحسن اختيار الأعمال والمشاريع ومقوماتها التشغيلية التي تتسق مع سياقات
حياة "بذور التشكيلة الفريدة" وإملاءات الواقعية. والعمل المطلوب هنا هو
عمل تجديدي مفارق لما هو شائع.
أولويات
المراحل التأسيسية (البدء وتقوية المرتكزات):
إذ تختلف
مرحلة تقوية المرتكزات عن مرحلة البدء، فهي تتسم بكونها مرحلة كثيفة للعمل، تتطلب عملا
متسارعا ومتداخلا ومتوازنا، بدلا من الإعداد الفكري الهادئ البطيء. وتتركز أولويات
العمل في هذه المراحل في ثلاثية غاية في الأهمية:
ختاما،
فإن هذا التكليف الحضاري هو تكليف كبير لا يقدر عليه إلا من استعان بالله وجدّ في إعداد
نفسه. إن التساؤل الدائم هو كيف تستطيع الأمة استعادة زمام المبادرة والنجاح والتصدي
للزحف البائس للخصوم، مما يؤكد أن التكليف هو ببذل أقصى الوسع والتعرف العميق والدقيق
بفقه الأولويات، مع اليقين بأن الاختيار وعيا وسعيا يقترن وبشكل أكيد للتدبير الإلهي
والانتظام السنني الذي لن تجد له تحويلا أو تبديلا.
x.com/Saif_abdelfatah