كتب

من الأطراف إلى المتن.. حفريات في الذاكرة التونسية العثمانية بين السيرة والمكان

كتاب "البيوغرافيا والتاريخ" ليس فقط مساهمة في التأريخ، بل هو أيضًا مساهمة في العدالة الرمزية والمعرفية.
الكتاب: البيوغرافيا والتاريخ: حفريات في ذاكرة تونس في العهد العثماني
المؤلف: الدكتور زهير بن يوسف
الناشر: دار المسيرة للنشر – تونس
عدد الصفحات: 370 صفحة القطع المتوسط


يأتي كتاب الدكتور زهير بن يوسف ليشكّل إضافة نوعية في حقل الدراسات التاريخية المتعلقة بتونس العثمانية، من خلال اختياره التوغّل في المساحات المُهمَّشة والمسكوت عنها من الذاكرة الجماعية، مستندا إلى أدوات منهجية دقيقة تستلهم من تقنيات الحفر الأثري والمقاربة المونوغرافية، في محاولة لإعادة تشكيل هوية التاريخ من الأسفل، لا من خلال السلطة أو المركز، بل من خلال الشخصيات الغائبة والمؤسسات اللامرئية.

الهيكلة والمضامين:

ينقسم الكتاب إلى قسمين رئيسيين، يربط بينهما خيط ناظم يتمثل في تسليط الضوء على التاريخ المنسي عبر تحليل السير الغائبة ومؤسسات المجتمع العميق، في إطار قراءة جديدة لهوية تونس خلال العهد العثماني:

القسم الأول ـ "البيوغرافيا والذاكرة: قراءات في التاريخ الدفين"

يعتمد المؤلف مقاربة بيوغرافية، لا بهدف استعراض السير الذاتية فحسب، بل لاستنطاق ما بين السطور، في محاولة لإعادة الاعتبار إلى ثلاث شخصيات تاريخية مغمورة: الصغير بن يوسف (ت1772)، محمد العياضي (ت1760)، علي الكوندي (ت1708).

يتميّز كتاب "البيوغرافيا والتاريخ: حفريات في ذاكرة تونس في العهد العثماني" بمقاربته متعددة الروافد والمنفتحة على الهوامش، وهي سمة نادراً ما تتوفّر بهذا العمق في الدراسات التاريخية التونسية المعاصرة.
رغم مكانتهم العلمية، لم تحظَ هذه الشخصيات باهتمام كاف في كتب التراجم التقليدية، وقد عانى حضورهم من فجوات تاريخية حالت دون رسم معالم دقيقة لسيرهم. من هنا، يتدخل الكاتب ليملأ هذه الفجوات من خلال مصادر غير تقليدية، مثل كتابات الذهنيات والمصادر غير الرسمية، في ما يشبه محاولة لإعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر غير رسمية، ومن هوامش السرديات الكبرى.

القسم الثاني ـ  "الانتماء والهوية من خلال مصادر التاريخ المنسي"

يتحول التركيز إلى البنية المؤسساتية، وتحديدا الزوايا بوصفها مؤسسات ملجأ ومراكز روحية لعبت أدوارا اجتماعية مفصلية. ويتخذ الكاتب من الزاوية الصمادحية بمدينة باجة أنموذجاً مونوغرافياً لدراسة: ـ علاقة الزاوية بالسلطة السياسية (الدايات، البايات، النزاعات الحسينية)، مكانة الصلحاء في التراتبية الاجتماعية، الدور الوظيفي والرمزي للزوايا في زمن الأزمات والاضطرابات.

وتُقرأ هذه المعطيات من خلال مصادر متنوّعة: نقائش أثرية، نصوص أدبية، وثائق شعبية، وأدب مناقبي، بعيداً عن الروايات الرسمية التي غالباً ما أقصت هذه المؤسسات من تحقيبها للسرد التاريخي.

المقاربة المنهجية

ينحو الكتاب نحو مقاربة هجينة تجمع بين أدوات المؤرخ، والمؤرخ الثقافي، وعالم الآثار، مستفيداً من: السرديات التاريخية الكلاسيكية، النقائش الأثرية، الأرشيفات الجبائية والإدارية، الآثار الجوفية والمصادر الأدبية الشعبية، وذلك لتشييد رؤية جديدة لهوية تونس في العهد العثماني، تتجاوز المركز وتؤسس لمعرفة تاريخية تنبع من الأطراف.

أهمية الكتاب:

يمثل هذا الكتاب دعوة لإعادة النظر في مصادر الكتابة التاريخية وتوسيعها لتشمل المهمّش والمطموس، وإسهاماً في ترميم الذاكرة الجماعية من خلال استحضار من غُيّبوا من سجلات التاريخ الرسمي، ومدخلاً لفهم التحولات الاجتماعية والسياسية في تونس العثمانية من منظور غير مركزي، ومرجعاً أكاديمياً نوعياً في مجال التاريخ المونوغرافي وتاريخ الأفكار.

يقدّم الدكتور زهير بن يوسف عملاً علمياً دقيقاً وعميقاً، يستلهم من مفهوم "الحفريات" لفوكو وسيلة لاكتشاف الطبقات المنسية من التاريخ. إنه تاريخ "من تحت"، يتحدّى السرديات السلطوية ويمنح الكلمة لمن لم تُكتب أسماؤهم في سجلات الدولة. كتاب "البيوغرافيا والتاريخ" ليس فقط مساهمة في التأريخ، بل هو أيضًا مساهمة في العدالة الرمزية والمعرفية.

الكتاب في ضوء السياق التاريخي

يتقاطع كتاب "البيوغرافيا والتاريخ: حفريات في ذاكرة تونس في العهد العثماني" مع السياق العام لتاريخ تونس خلال الحقبة العثمانية، وهي مرحلة تاريخية اتسمت بتعقّد بنيات السلطة وتداخل المحلي بالمركزي. فمنذ دخول تونس تحت السيادة العثمانية عام 1574، بعد طرد الإسبان من البلاد، أصبحت إيالة ذات طابع خاص ضمن المجال العثماني، حيث تناوب على حكمها الباشوات ثم الدايات، وصولاً إلى البايات الحسينيين.

هذا النسق السياسي، الذي تراوح بين الولاء الشكلي للباب العالي والاستقلال الفعلي للحكم المحلي، شكّل الخلفية التي تحرّكت ضمنها الشخصيات التي تناولها القسم الأول من الكتاب. فمن خلال مقاربته البيوغرافية، لا يكتفي المؤلف بتقديم سير مؤرخين وفقهاء مجهولين، بل يسعى إلى استنطاقهم لفهم الديناميات الفكرية والاجتماعية التي تشكّلت تحت تأثير السلطة المتقلّبة والواقع الاجتماعي المتحوّل، واضعاً إياهم في قلب حركة التاريخ لا على هامشه.

يتقاطع كتاب "البيوغرافيا والتاريخ: حفريات في ذاكرة تونس في العهد العثماني" مع السياق العام لتاريخ تونس خلال الحقبة العثمانية، وهي مرحلة تاريخية اتسمت بتعقّد بنيات السلطة وتداخل المحلي بالمركزي. فمنذ دخول تونس تحت السيادة العثمانية عام 1574، بعد طرد الإسبان من البلاد، أصبحت إيالة ذات طابع خاص ضمن المجال العثماني، حيث تناوب على حكمها الباشوات ثم الدايات، وصولاً إلى البايات الحسينيين.
في القسم الثاني، يوسّع الكتاب عدسته ليشمل المؤسسات، وتحديداً الزوايا الروحية، بوصفها فاعلاً مجتمعياً أساسياً خلال فترات التوتر والصراع السياسي. وقد مثّل اختيار الزاوية الصمادحية بباجة مدخلاً نموذجياً لفهم التفاعلات المعقّدة بين الأطراف والمركز، بين الروحي والسياسي، وبين الفاعلين الاجتماعيين من خارج السلطة الرسمية وبنيات الحكم نفسها.

فالمؤلف لا يكتفي بدراسة المؤسسة الدينية ككيان روحي، بل يربطها بأحداث مفصلية مثل صراع الدايات والبايات المراديين في القرن السابع عشر، والحرب الباشية الحسينية في القرن الثامن عشر، ليكشف من خلال ذلك عن أدوار الزوايا في امتصاص الأزمات، وإعادة تشكيل التوازنات الاجتماعية. وهكذا، تضيء هذه الدراسة التحليلية زوايا معتمة في تاريخ تونس العثمانية، عبر تفكيك العلاقة بين الهوية والانتماء من منظور مجتمعي قاعدي، لا سلطوي.

أعمال مشابهة في حقل التاريخ الاجتماعي والبيوغرافي

يتميّز كتاب "البيوغرافيا والتاريخ: حفريات في ذاكرة تونس في العهد العثماني" بمقاربته متعددة الروافد والمنفتحة على الهوامش، وهي سمة نادراً ما تتوفّر بهذا العمق في الدراسات التاريخية التونسية المعاصرة. وفي هذا السياق، يمكن مقارنته ببعض الأعمال التي طرقت موضوع التاريخ الاجتماعي أو البيوغرافي في تونس العثمانية، مثل أبحاث عبد الجليل التميمي حول مؤسسة المخطوطات والزوايا، أو أعمال الهادي التيمومي التي ركزت على التحولات البنيوية في المجتمع التونسي خلال فترات الاضطراب. غير أن ما يميز عمل الدكتور زهير بن يوسف هو نقل مركز الثقل التحليلي من النخبة السياسية إلى الشخصيات المهمّشة والمؤسسات اللامرئية، وهو بذلك يقترب من مقاربات تاريخ الذهنيات وتاريخ الحياة اليومية، كما نجدها في أعمال ميشال فوكو أو جاك لوغوف في السياق الأوروبي.

ففي حين تركز معظم الدراسات الكلاسيكية على سرد الأحداث الكبرى أو التفاعلات بين السلطة الاستعمارية والمجتمع المحلي، فإن هذا الكتاب ينشغل بـ"الرافد المغيّب" و"الصوت المطموس"، مستعيناً بمصادر غير تقليدية كالنقائش والأدب المناقبي والوثائق المحلية، ما يجعله أقرب إلى أعمال مدرسة الحوليات الفرنسية (Annales) التي دعت إلى إعادة الاعتبار للزمن الطويل وللفاعلين الصغار في حركة التاريخ. وبذلك لا يقدّم المؤلف مجرّد عمل تأريخي تقني، بل مداخلة معرفية تمس جوهر الكتابة التاريخية ومنهجها وأخلاقياتها، مما يمنح الكتاب طابعاً نقدياً وتأصيلياً في آنٍ واحد، ويضعه في مصاف الدراسات المرجعية الجديدة في مجال تاريخ المغرب الكبير في العصر الحديث.