كتب

القومية من منظور المظلوم.. قراءة كردية في مرآة العصبية العربية.. كتاب جديد

تعرّف العصبية في علم النفس بكونها اتجاها يتّسم بالتّقويم الإيجابي المتطرف للأمة التي ينتمي إليها الفرد. ولها دعائم كثيرة أيضا.
الكتاب: "العصبيّة القوميّة في منظور الإسلام"
الكاتب: قادر مجيد حسين القشوري
الناشر: المركـز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ألمانيا - برلين، الطبعة الأولى 2025
عدد الصفحات: 230 
ـ 1 ـ


ينطلق الباحث قادر مجيد حسين القشوري من مصادرة مدارها على أنّ للتعصب القومي تأثيرات سلبية عديد منها الاجتماعيّ ومنها الاقتصاديّ ومنها العداوات المزمنة والإسهام في تفكيك عرى الروابط التي تجمع بين الشعوب. ويشدّد على أنّ ما عاناه الأكراد على مدار التّاريخ من "القوميّات المتسلطة على رقابهم ظلما وجورا" أنموذج جيّد لهذه التأثيرات السلبية. ويتعمّق في طرح القضية الكردية. فيدرسها دراسة مقارنة بقدر متفاوت من الموضوعية. فيُبرز وقوع الأكراد ضحية لما يصطلح عليه بالعصبيّة القومية العربية التي ينبذها الإسلام. ويستقي مادته من المصادر المختلفة. فيستند إلى النص القرآني وإلى الحديث وإلى كتب المفسرين.

وينظر في الكتب التاريخية والفكر القومي، والمعاجم اللغوية، والموسوعات السياسية ودواوين الشعر. ثم يعرض مادته في فصول أربع فيعرّف العصبية القومية ويفصّل وجوه حضورها عند العرب في العصر الجاهلي وفي العصور الإسلامية اللاّحقة وصولا إلى العصر الحديث مقارنا إياها بالعصبية القومية عند الفرس والأكراد والترك، محاولا البحث في السبل الكفيلة بمعالجتها من المنظور الإسلامي الرّافض للعصبيّة، خدمة للمجتمع الإنساني بشكل عام وللأمة الإسلامية بشكل خاصّ وفق منطوقه.

ـ 2 ـ

في الفصل الأول ذكّر بأنّ النبي كان يحثّ على أن يحب المرء قومه أو يعينهم على الخير.  ويؤكّد أن ليس في هذا السّلوك القويم  شيء من العصبية. لأنه لا يقرن حبّ القوم بالظلم. فالعصبية إذن هي الغلوّ في التعلّق بشخص أو فكرة أو مبدأ أو عقيدة، غلوّا يحول دون التّسامح مما يفضي غالبا إلى العنف.

للعصبية القومية أسس محدّدة منها عنصريْ النسب و"نقاء الدم" وعنصريْ الولاء والحلف. لذلك تُعرّف القومية من منطلق علم الاجتماع بكونها حركة سياسية قوامها جمع أبناء الأمة الواحدة في نضال مشترك، بغاية مصير مشترك، وفي ظل تنظيم سياسي مشترك، بحيث يكون ولاء الفرد المطلق لأمته
ويستدعي تعريف ابن خلدون لها بكونها "أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألّب معهم على من يناوئهم ويغضب لهم ظالمين كانوا أم مظلومين". ومن تبعات مثل هذا الاعتقاد أن يبذل الوسع من الجهد في سبيل نصرتهم، وأن يعتقد بوجوب خضوع بقية الأمم لهم وأن يشرّع احتلال أراضيهم واستغلال مقدّراتها. فلا يولي بالا إلى ما يترتّب على ما يأتونه من مخالفة للشرع أو الأعراف الدولية و القوانين الوضعية. ومن هذا المنطلق فـ"ـكثير من القوميين العرب يعدون الأمة العربية فوق الأمم جميعا ويعدّونها سفينة النّجاة. فمن لم يركبها يغرق في لجاج العواصف البحرية الهائمة أثر أمواجها المتلاطمة".

ـ 3 ـ

للعصبية القومية أسس محدّدة منها عنصريْ النسب و"نقاء الدم" وعنصريْ الولاء والحلف. لذلك تُعرّف القومية من منطلق علم الاجتماع بكونها حركة سياسية قوامها جمع أبناء الأمة الواحدة في نضال مشترك، بغاية مصير مشترك، وفي ظل تنظيم سياسي مشترك، بحيث يكون ولاء الفرد المطلق لأمته. وتعرّف في علم النفس بكونها اتجاها يتّسم بالتّقويم الإيجابي المتطرف للأمة التي ينتمي إليها الفرد. ولها دعائم كثيرة أيضا. منها أن يحتكر أفراد قوم معين الحكم وأن يعملوا على بسط نفوذهم على القوميات الأخرى التي تعيش معهم على رقعة الدولة نفسها. فلا يخلو هذا النّفوذ من تسلّط وظلم.

ومصطلح القومية مصطلح حديث العهد. ولا يشكّ الباحث في أنّ الانجليز أو الفرنسيين مثلا، قد أدركوا بأنّهم متميزون عن غيرهم على مستوى الهوية اللغوية والعادات والتقاليد والثقافة منذ عصور بعيدة. ولكن هذا الإدراك لم يكن يتضمّن أي مفهوم قومي لتتولّد عنه قومية حقيقية. فالفكر القومي الذي يخصّ النّخب، لم يبدأ بالتّشكل إلاّ في القرن الثاني عشر. وامتدّ إلى القرن الثّامن عشر. أمّا الشعور القومي الذي يشمل مختلف أفراد مجتمع مّا، فظهر بعد هذا التاريخ. 

ثمّ أصبحت القومية نزعة مهيمنة في العالم الغربي في القرن التاسع عشر . فتحوّل الاتجاه من الحرية الفردية إلى الوحدة الجماعية القومية، ومن النزعة الإنسانية التي تتسم بطابع الحرية إلى طابع يتّسم بالتسلط القومي، ومن الاهتمام بكرامة الفرد إلى الاهتمام بقوة الأمة. ولكن إلى أي حدّ يمكن القول بوجود قومية أصيلة "نقية الدّم"؟  يقدّر الكاتب قادر مجيد حسين القشوري أنّ أفراد كل أمة ينحدرون من أصول مختلفة. ولكن تظهر عوامل تقرب بعضهم إلى بعض، فتولّد الشعور بالوحدة بينهم جيلاً عن جيل، وتمنحهم الانسجام الجسدي والقيمي بغض النظر عن وهم نقاء الدم.

ـ 4 ـ

يتقاطع مفهوم القومية مع مفاهيم مجاورة حدّ الالتباس منها خاصّة مفهوم الأمة. والأمّة لغة، جماعة من الناس يعيشون في زمان ومكان واحد فيجمع بينهم الدين (ملة أو نحلة أو مذهب). أما اصطلاحا، فتعني مجموعة من الأفراد يؤلفون وحدة سياسة تقوم على وحدة الوطن والتاريخ والآلام والآمال المشتركة أو هي "شعب ذو هوية سياسية خاصة، تجمع بين أفراده روابط موضوعية وشعورية وروحية متعددة تختلف من شعب لآخر، مثل اللغة والعقيدة والمصلحة المشتركة والتاريخ والحضارة". فنجد الأمة الموحدة التي تؤلف دولة مستقلة على جميع أراضيها والأمة الموزعة على عدة دول مستقلة بعضها عن بعض والأمة المحرومة من الدولة الخاصة بها. فتظل تابعة لدولة أجنبية أخرى. والنوع الأخير هو الأمة المحرومة من الاستقلال. والأدهى أنّ يكون وطنها مغتصبا من دول متعدّدة. فيتعيّن عليها العمل على نيل استقلالها أولاً، ثم تكوين دولتها الموحدة لاحقا. وهذا حال الأمة الكردية.

أصبحت القومية نزعة مهيمنة في العالم الغربي في القرن التاسع عشر . فتحوّل الاتجاه من الحرية الفردية إلى الوحدة الجماعية القومية، ومن النزعة الإنسانية التي تتسم بطابع الحرية إلى طابع يتّسم بالتسلط القومي، ومن الاهتمام بكرامة الفرد إلى الاهتمام بقوة الأمة.
ويحدث أن يأمل البعض بتأثير من الإيديولوجيات خاصّة، في أن يوحّد جميع الأمم في كيان واحد ليقع الاستغناء عن العصبيات القومية والإقليمية. فيدعو إلى الترفع عن النزعات الوطنية أو القومية الخاصة وتعويضها بالأممية. فيقول مونتاني: "إن الطبيعة وضعتنا في هذا العالم أحراراً، ولكننا وضعنا أنفسنا في سجون فكرية معينة" ويقول طاغور: "إن فكرة الأمة أقوى مخدر اخترعه الإنسان" ولكن القول بالأممية يظل مرتبطا في الفكر الإنساني بالإيديوليجات الطوباوية.

ـ 5 ـ

ولا ينفي الباحث احتمال ظهور مشاعر التّعاطف بين الجماعة الواحدة والتآزر بينها قديما. ولكن هذه الفرضية لا تعني وجود وعي قومي للاختلاف البين في هدف تلك الحالات أو الظواهر والهدف الذي ترمي إليه القومية اليوم. ولذلك يعتب بشدة على الباحثين الذين ينتزعون مصطلحات دقيقة مثل مصطلح الأمة أو القومية من سياقها الإيبستيمولوجي ويُسقطونها على سياقات قديمة تفضي إلى تحريف التاريخ وتشويهه بدل المساعدة على فهمه.

وانطلاقا من هذه القناعة يتتبع الباحث أزمنة مختلفة لبروز العصبية عند العرب بدءا بالعصر الجاهلي وصولا إلى العصر الحديث مارا بالعصور الإسلامية المختلفة. فينفي عمّا ظهر في العصر الجاهلي، صبغة الانتصار إلى العرق أو اللغة أو الثّقافة. فقد كان العرب يمثلون الطرف الضّعيف المحبَط في علاقتهم غير مستقرة مع الدول والشعوب المجاورة من روم وبيزنطيين وأحباش وفرس. وكان شعور الفرد منهم متجها نحو قبيلته. فيمدحها ويعدد محاسنها ويتغنى بانتصاراتها ويهجو القبائل الأخرى دفاعا عنها. فلم يشكلوا، وفق الباحث، أمة بالمعنى الصحيح، لأنهم لم يتحدوا لغة ولا دينا.

ولكن بعد مرحلة الإسلام المبكر وبعد أن دفعت الدولة الإسلامية بالعربي إلى الواجهة في العصر الأموي ستأخذ هويتهم في التشكّل شيئا فشيئا. وستبرز عندهم العصبية القومية بشدة لأول مرة. وستصطدم بعصبيات الأخرى.. فينقل عن ابن خلدون قوله في مقدمته: "كان العرب أشد الناس توحشاً، وينزلون من أهل الحواضر منزلة وحوش غير المقدور عليه.. وفي معناهم ظعون البربر والزانة بالمغرب والأكراد والتركمان والترك بالمشرق، إلا أنّ العرب أبعد نجعة وأشد بداوة، لأنهم مختصون بالقيام على الإبل فقط وهؤلاء يقومون عليها وعلى الشياه والبقر معا".

ـ 6 ـ

ومن سياساتهم التي تفضح عصبيتهم، ويقصد بالعصبية معاونة الأقارب على الظلم كما جاء في الفصل الأول من كتابه، أنّ الأمويين لم يساووا بين الجنود المسلمين من العرب وغير العرب في العطايا والرواتب. ورغم عمل عمر بن عبد العزيز على تدارك هذا الحيف فإن من جاؤوا من بعده أعادوا تمييز الجنود العرب. ويستدل على ذلك باقتصار أسماء الجنود المسجلين في ديوان الجند والعطايا على العرب دون غيرهم. وفضلا عن ذلك:

ـ  فقد كان على كل مسلم غير عربي أن يجير قبيلة أو شخصا عربيا ويكون مولى له، فكلّما ذهب العربي إلى الحرب أخذ معه مولاه غير العربي. وكان العربي يركب فرساً في الحروب أما المسلم غير العربي فيُجبر على السّير إليها وعلى المشاركة فيها راجلاً، وان كان يملك فرسا.

ـ حُرم المسلمون غير العرب من تقلّد الوظائف المهمة، فكانوا يشتغلون في المهن الهامشية كالصّناعات البسيطة وكسح الطرق وصنع الخفاف وحياكة الملابس أو كانوا يتولّون خدمة مجالسهم والترفيه عنهم وبالغناء في سهراتهم وسمرهم.

فخلق هذا كله شعورا عند بعض الموالي بعدم مساواتهم مع غيرهم من العرب.

ـ 7 ـ

ظهرت فكرة القومية العربية بجلاء إذن، في العصر الحديث. فتحوّلت في القرن التاسع عشر إلى وعي قومي. وستمثّل عنصر اختلاف بين المفكّرين حتى نهاية القرن العشرين. فيعرفها مؤيدوها بكونها حركة سياسية تهدف إلى تحقيق استقلال الشعب العربي استقلالاً تاماً أولا وإلى بعث الحضارة العربية وتحقيق الوحدة بين مختلف الأقطار. فتجتمع الأمة العربية في دولة واحدة قادرة على الإسهام الفاعل في الحضارة الإنسانية والمشاركة في بناء عالم قائم على العدل والحرية. ومن منطلق هذا الفكر ظهرت جمعيات سرية عربية تجمع بين المسلمين والمسيحيين وتتبنى إعلان الثورة العربية ضد الترك العثمانيين.

أما معارضوها من العرب فيقدّرون أنّ الفضل في اجتماع كلمة العرب وفي تعاظم مكانتهم يعود أساسا إلى الدين. ومن المفارقة أن تتبنى هذه الحركة القومية القطع معه. لذلك وجدوا فيها "حركة سياسية فكرية متعصبة، تدعو إلى تمجيد العرب، وإقامة دولة موحدة لهم على أساس من رابطة الدم والقربى واللغة والتاريخ، وإحلالها محل رابطة الدين" وعرفوها بكونها "رِدّة جاهلية وضربا من ضروب الغزو الفكري الذي أصاب العالم الإسلامي، لأنها صدى للدعوات التي ظهرت في أوروبا".

ـ 8 ـ

ينتهي الباحث في الفصلين الأخيرين من أثره إلى التصريح بأطروحته ومدارها على أنّ الشعب الكردي الذي يعدّ من أقدم الشّعوب في التّاريخ بهويته الخاصّة القائمة قبل الفتح الإسلامي مثّل أبرز ضحايا العصبية القومية العربية. وقضيته اليوم واحدة من أشدّ المسائل القومية والعالمية تعقيداً وسبب مباشر من أسباب عدم استقرار الحياة السياسية الداخلية والخارجية لدول الشرق الأوسط.

الشعب الكردي الذي يعدّ من أقدم الشّعوب في التّاريخ بهويته الخاصّة القائمة قبل الفتح الإسلامي مثّل أبرز ضحايا العصبية القومية العربية. وقضيته اليوم واحدة من أشدّ المسائل القومية والعالمية تعقيداً وسبب مباشر من أسباب عدم استقرار الحياة السياسية الداخلية والخارجية لدول الشرق الأوسط.
لقد صاحبت التّفكير في الوحدة العربية نزعة شوفينية تتجاهل الحقوق الكردية. والنتيجة أنّ تطلّع هذا الشّعب للحرية الذي بات ركنا أساسيا من أركان وجوده لم يفض إلى قيام دولة كردية أو وجود صيغة سياسية تحقّق له تطلعاته القومية. فكان يُواجه بالقمع وبشتى وسائل الإبادة الجماعية. ففي العراق مثلا طُرد الأكراد من الجيش وأُقصوا من الوظائف الحكومية ومُنع تدريس لغتهم. وصودرت المطبوعات التي تصدر بها. وحوصروا سياسيا. واستعملت الأسلحة المحرمة دوليا ضدهم.

ويتهم الصحافة العربية بالانخراط في عصبية ترى كل من هو خارج عنها غريبا وأعجميا وإن سكن بين ظهرانيهم طويلا كالقومية الكردية والتواطؤ مع غلاة التعصب القومي العربي ولو كانوا ظالمين. يظهر ذلك خاصّة في صمتها عن الجرائم التي ترتكبها أنظمتها بحق الشعب الكردي كما في جريمة رش مدينة حلبجة بالغازات الكيميائية السّامة أو في حملة الأنفال التي راح ضحيتها مائة واثنين وثمانين ألف كردي بعد أن دُمرت قراهم البالغة أكثر من أربعة ألاف وخمسمائة قرية.