الذاكرة السياسية

الحراك الشعبي في الجزائر.. كيف ضاعت الفرصة؟ شهادة للتاريخ

انطلق الحراك العظيم يوم 22 فبراير 2019 واستمر قرابة السنة والنصف، وأخذ يتراجع بشكل متدرّج إلى أن توقّف نهائيًا بسبب كورونا..
حمل الحراك الشعبي في الجزائر آمالا عريضة للتغيير، واعتقد مئات الآلاف في مسيراتهم اليومية الأسبوعية أنهم قد ابتكروا طريقة حضارية لم يسبقهم إليها أحد في التغيير. لقد ظنوا بأن مسيراتهم السلمية النظيفة العامرة بالابتسامات، الخالية من العبارات الحادة، ومن الأصوات العالية، والنظرات الغاضبة، والسّير جنبا إلى جنب بجل المدن الجزائرية في مواكب متنوعة، فردية وعائلية ورجالية ونسائية، من كل التيارات والتوجهات، بدون هتافات حزبية ولا لافتات أيديولوجية ستقنع أصحاب القرار في البلاد بأن وقت التغيير قد قدِم بعد أكثر من ستين سنة من الأحادية الحزبية ثم الديمقراطية الصورية، ولا مجال للتأجيل.

لقد اعتقدوا بأن أعدادهم العظيمة وسلوكهم الراقي سيكون كافيا للتغيير والانتقال الديمقراطي ولتحويل وجهة الجزائر من الفساد والفشل والاستبداد إلى الشفافية والفاعلية والعدالة والتطور والازدهار بسلاسة ولمصلحة الجميع.

انطلق الحراك العظيم يوم 22 فبراير 2019 واستمر قرابة سنة ونصف، وأخذ يتراجع بشكل متدرّج إلى أن توقّف نهائيًا بسبب كورونا ولكن، رغم هذه المسيرات السلمية الاحتجاجية الأطول في تاريخ الجزائر وفي تاريخ أغلب شعوب العالم لم يحقق الحراك الشعبي أهدافه، سوى إسقاط العهدة الخامسة للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، التي لم تكن في حقيقة الأمر سوى السبب المباشر لاندلاع الحراك، لم يتحقق شيء من الأسباب العميقة التي صنعت الاحتقان المتراكم.

لا يمكن فهم كيف ضاعت فرصة الحراك الشعبي دون فهم الأسباب والظروف التي أنشأته، والفواعل السياسية والاجتماعية التي حركته. لم يكن الحراك طفرة مفاجئة نزلت من السماء بلا مقدمات ومسببات، ولكن كان ثمة مسار تراكمي أدى إليه.
إن الحالات والمظاهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت شائعة قبل الحراك بقيت مستمرة بعده إلى الآن، وأشياء أخرى مؤسفة زادت. لم تتحسن الأوضاع الاقتصادية إذ لا زلنا نقبع تحت التبعية للجباية البترولية، ولم يعطنا فسحة من الزمن إلا ارتفاع أسعار المحروقات لأسباب خارجية ليست قابلة للدوام، وكان التوجه الرسمي أثناء تدهور الأسعار قبيل الحرب في أوكرانيا نحو مراجعة سياسة التحويلات الاجتماعية ومراجعة سياسة الدعم، وعند أول ارتفاع لمداخيل البترول تم التراجع عن ذلك والعودة المكثفة لسياسات شعبوية سنرى آثارها السيئة لاحقا حتما، ومع ذلك استمرّت الأحوال المعيشية للمواطنين متعثرة، وبالنسبة للبعض مستحيلة.

لقد بقي الشعب الجزائري، يعاني معانات ثقيلة، يعتمد الفقراء على المساعدات والتضامن العائلي، وتكابد الطبقة الوسطى لحفظ التوازن المالي الأسري، ورغم المجهودات الكبيرة والقوانين المشجعة لم ينشأ نسيج صناعي فعلي ينتج البضائع الجزائرية ويوفر فرص الشغل للناس، وخصوصا الشباب، ولم يتحقق اكتفاء ذاتي في المنتجات الغذائية والصيدلانية، ورغم التوزيع المكثف للسكنات في مواسم محددة معلومة بقيت أزمة الإسكان مستمرة، وما يوزع يكتنفه كثير مما يمكن أن يقال.

وفي مجال الخدمات تعمقت أزمة التعليم، ونخر الفساد مختلف مستوياته الإدارية ومكوناتها البشرية، وهجر أعداد كبيرة من المتعلمين الأقسام الدراسية النظامية نحو التعليم الموازي وبرامج الدعم الذي بات هو الأصل، ولم تتحول الجزائر إلى قبلة سياحية رغم المقدرات العظيمة، ولم تتطور المنظومة البنكية والمصرفية، وظلت مستشفياتنا تسير  بأنماطها الرديئة القديمة تهجرها الكفاءات الطبية العالية، نحو قطاع خاص فوضوي أو إلى دول أخرى، ضمن هجرات العقول لتأخذ بلدان أخرى عوائد  استثماراتنا البشرية. وفي السياسة الخارجية باتت الجزائر جزيرة معزولة لا تعرف كيف تحل مشاكلها مع أغلب جيرانها.

لم يتوقف الفساد البتة بل توسعت شبكاته إلى مختلف المجالات والمستويات، ولا زال الفساد مع استحالة التدافع والرقابة على الشأن العام وسياسات تمكين الرداءة الموالية والإدارة المتكلسة وغياب الإبداع وتهميش الكفاءة هو ما يسبب في التعثر المستدام المذكور. والذي أقوله هاهنا أقوله، يعلم الله، بدون أي شغب فلم يبق للسياسة في بلدنا طعم، ولا لأنني أريد النيل من جهة أو من أحد، أو أخدم طموحا أو بغية خفية، وإنما هو الضمير فحسب.

إنه علاوة  على كل ما ذُكر مما بقي من سلبيات بعد الحراك، ثمة مظاهر سيئة ومدمرة تنامت في الجزائر بعد الحراك الشعبي وهو ما يتعلق بمجال الحريات. لقد كنا في زمن بوتفليقة نقول ما نشاء، بل كان معارضوه يقولون فيه هو ذاته ما يتجاوز حدود المعقول، ولم تكن في عهده المتابعات وملاحقة المدونين وسجن المعارضين والمنع من السفر سلوكيات شائعة.

لقد كنت أرفع السقف ضد بوتفليقة إلى أبعد الحدود، إلى حد أن البعض اتهمني بالراديكالية، وثمة من نصحني بقوله: "احذر من إذا قال فعل" والغريب أن هؤلاء هرعوا إلى الحراك ضد بوتفليقة حين تأكد اقتراب نهايته.

لقد كنت اتَّهم العهد السابق للحراك  بأنه عهد الفساد والفشل وأن ذلك النظام هو الخطر الوحيد على البلد، وخرجنا إلى الشوارع بلا إذن قانوني ضد العهدة الرابعة، وضد الغاز الصخري، ومن أجل فلسطين، وضمن أنشطة تنسيقية الانتقال الديمقراطي، ولم أُمنع البتة من الحديث ومن المشاركة في القنوات الفضائية، كما لم يُمنع غيري من الشخصيات السياسية الحزبية والمستقلة، وكانت السياسة المتبعة في عهد بوتفليقة هي تكليف قوى موالية لمواجهتنا سياسيا وإعلاميا، وكان بعضهم من إطارات وقيادات أحزابنا متطوعين لذلك، لم يكن بوتفليقة يمنعنا ولكن كان يفعل ذلك. خلافا لما نعيشه الآن من غلق واعتقال ومتابعات قضائية في وجوه المخالفين الجادين والمعارضين الذين لا يُلزمون أنفسهم بسقوف محددة سياسيا. وكم هو صغير ذلك التصرف الذي حدث لي قبل شهر تقريبا، حين فاجأني على غير العادة صحفي من فضائية جزائرية مشهورة دعاني لحوار معه في القناة. قلت في نفسي ربما تصرف هذا الصحفي دون مراجعة للمسؤولين فتوجهت له بعد نهاية الحصة قائلا: "هل أنت متأكد بأنك ستستطيع بث هذه الحصة" فقال: "لا توجد مشكلة، لا يوجد في ما قلت ما يمنع بثها"، لم يكن يعلم صديقي بأن سياسة الغلق لا تتعلق بما يقول السياسي المعارض حقيقة فحسب، بل في ظهوره في وسائل الإعلام، لم أشأ أن أذكر الصحفي باسمه والقناة ذاتها لأنه طلب مني التريث، ولكن هذا التصرف لا يدل على نجابةِ من كان وراءه في زمن توجد فيه طرق إعلامية كثيرة تتيح ظهورا أكثر انتشارا.

لقد وصل التضييق على المخالفين والمعارضين في هذه المرحلة حدا جعل الأحزاب والمؤسسات الإعلامية والحقوقية ومنظمات المجتمع المدني تضع لنفسها محددات ذاتية، أو ما يسمى بالرقابة الذاتية، فعرف الجميع الخطاب المسموح به وسقف النقد المتحمل، فلا يجرؤ أحد على تجاوزه، فرجعنا إلى زمان قديم غابر يسمى فيه الخطاب "لغة الخشب"، أي الخطاب غير الناقل للمعاني والأفكار، والمواقف التي لا تصنع التدافع الضروري لمنع الفساد والاستبداد والتي لا تؤدي إلى الإصلاح والتغيير وصناعة موازين القوة الضرورية لبقاء الحياة السياسية واستمرار الأمل في التغيير. تماما كما هو الخشب المانع لنقل الكهرباء.

لقد تطلّب تجاوز خطاب "لغة الخشب" نضال عقود طويلة صنع قادةً وزعماء أصحاب مواقف وفكر ورأي وشجاعة، وهيّأ لبروز حياة سياسية حقيقية في البلاد رغم هيمنة الحزب الواحد ومخاطر التحول السياسي الخطير في التسعينيات إلى غاية الحراك الشعبي، ثم ها نحن بعد الحراك نعود إلى مرحلة "موت السياسة" وشيوع "لغة الخشب" وغياب يكاد يكون كليا لرجال الفكر والسياسة والمواقف، الذين تحرك مواقفهم وتصريحاتهم وأفعالهم الأحداث.

إنه لجدير بنا ونحن في الذكرى السادسة للحراك الشعبي أن نطرح على أنفسنا السؤال: كيف حدث هذا؟ ومن المسؤول عن ضياع تلك الفرصة العظيمة؟

شاء الله تعالى أن أكون حاضرا في تفاصيل الأجواء التي صنعت الحراك الشعبي وأثناءه وشهدت على الأسباب التي جعلته يتوقف وكيف أنه لم يحقق أهدافه، وما أقدمه في هذا المقال هو تقرير مختصر عما عرفته وأعرفه، متوخيا في ما أقول الصدق والحق، مدركا حقيقة شناعة قول الزور في ديننا وفي القيم الإنسانية السوية. ولم أكن مهتما بكتابة شيء ما عن الذكرى السادسة للحراك حتى رأيت غيري قد كتب، وبعضهم لم يكن مؤيدا في الحراك في مبتدئه، وبعضهم لم يكن محقا ولا مصيبا في ما كتب، فلا بد لي أن أقدم شهادتي راجيا من الله تعالى أن يكون ذلك مصداقا لقوله: "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه".

ملابسات نشأة الحراك

لا يمكن فهم كيف ضاعت فرصة الحراك الشعبي دون فهم الأسباب والظروف التي أنشأته، والفواعل السياسية والاجتماعية التي حركته. لم يكن الحراك طفرة مفاجئة نزلت من السماء بلا مقدمات ومسببات، ولكن كان ثمة مسار تراكمي أدى إليه.

حينما كانت أسعار البترول قد بلغت حدا غير مسبوق (تجاوز حد المائة دولار في عام 2008 إلى أن بدأ يتجه إلى الانهيار منذ نهاية عام 2014) كانت معارضة بوتفليقة كمن يسبح ضد التيار، إذ ساهمت البحبوحة المالية في تضخيم فقعات الزبونية والانتهازية، وباتت الشخصيات والمؤسسات الطامعة في الريع تتوالد، ولم يكن ينبه إلى أن الجزائريين كانوا يعيشون وهما كبيرا إلا عدد قليل من السياسيين، بعضهم يعتمد على خبرته السياسية أو معارضته المبدئية، أو انتباهه إلى تعاظم شبكات الفساد في كل المستويات، وبعضهم يعتمد على الدراسات الاقتصادية والاستشرافات المستقبلية الدالة على انفجار حتمي للفقاعة المالية، وبعضهم يجمع بين هذا وذاك. وقد كنا بحمد الله ممن نبه الجزائريين إلى الخداع الكبير والهشاشة الاقتصادية وتعاظم منظومة الفساد، وتنبأنا بانهيار المنظومة، ومقالاتنا وفيديوهات تصريحاتنا لا تزال منشورة.

بقيت البلاد كلها تترنح فلم ينجح بضياع فرصة الحراك أحد في البلاد، وتشكل لدى قطاعات واسعة، حتى عند المتحزبين بأن الإصلاح من الداخل أمر مستحيل، وأن بقاء العمل السياسي تحت سقوف التحكم السلطوي ما هو إلا تفاهمات ضمنية بين مكونات الساحة السياسية محصلتها لصالح الأشخاص وليس لصالح البلد ونهضته.
لقد فهمنا التفاهمات والتحالفات التي جاءت ببوتفليقة في وقت مبكر، وعلمنا من هي خاصته ومن هم خصومه داخل المنظومة، وكيف مر من العهدة الأولى إلى الثانية المتفق عليها بين من أتوا به، وكيف تفرقوا عند العهدة الثالثة وكيف بدأ الشرخ يتسع بينهم عند العهدة الرابعة. لم تكن العهدة الخامسة هي القطرة الأولى التي أفاضت الكأس، بل كانت قبلها العهدة الرابعة. لقد كانت العهدة الرابعة هي عهدة النزول نحو الهاوية، لذلك عارضناها وخرجنا إلى الشارع  احتجاجاً عليها.

 لقد تأكد ظننا بأن هذه العهدة ستُدخل البلد في وضع خطير جدا، اجتمعت فيها الأزمة المالية بسبب انهيار أسعار البترول، وتحلل السلطة حول الرئيس المريض، وتعاظم صراع الأجنحة، والاحتقان الاجتماعي، وتحكم رجال الأعمال المستفيدين والمال الفاسد والفساد المعمم. وفي آخر العهدة بات منصب الرئاسة شاغرا فعليا والصراع على أشده بين أقطاب المؤسسة الأمنية والعسكرية في البلاد، من يملأ الفراغ ومن يتحكم في مسار الاستخلاف، وظل شقيق الرئيس حلقة الوصل وتعلّة الحكم وقابض الأختام.

في ظل هذه الظروف المعقدة استطاعت المعارضة أن تتكتل في تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي ثم في اجتماع لم يعرف له مثيل منذ الاستقلال في  مازفران، وقد كان لنشاطها وتحليلاتها ومشاريعها دور أساسي في تشكيل الوعي لدى الجماهير بما أدى لاحقا إلى الحراك الشعبي الكبير.

تسبب صدود السلطة عن المعارضة ورفضها الحوار معها من أجل الانتقال الديمقراطي إلى تفكك جبهة المعارضين ثم اختلفت وجهتهم بشأن الانتخابات التشريعية 2017، وتوجهت أحزابهم الأساسية إلى المشاركة من أجل البقاء في الساحة السياسية بمنطق محاولة الإصلاح من الداخل وترقب فرص أخرى للتغيير. وفي  2018 تأكد لدينا في حركة مجتمع السلم بأن تحلل السلطة قد بلغ مداه وأن الرئاسة في حالة ضعف شديد وأن تلك هي الفرصة للعودة لفكرة الانتقال الديمقراطي المتفاوض عليه عبر مشروع جديد سميناه التوافق الوطني.

عندما بدأنا بالدعوة إلى مبادرة التوافق تفاجأنا بقبول سريع من الرئاسة للحوار، وبعد الحوار مع أحزاب المولاة ثم بعض الشخصيات الوزارية المقربة من الرئيس توصلنا إلى الحوار مباشرة مع الرئاسة في مقرها بزرالدة فتأكد لدينا بأن الرئيس وعائلته لا يريدون العهدة الخمسة وإنما يبحثون عن مخرج آمن يحفظهم، وأنهم تحت ضغط شديد ممن يريدون فرض العهدة الخامسة على الرئيس وقد أُخبِرنا بمن هم أولئك.

لقد كانت تلك الظروف فرصة تاريخية لتحقق الانتقال الديمقراطي على نحو ما وقع في عدد من الدول التي نجحت فيها الديمقراطية بعد حالة ضعف في الحكم أدى إلى ميزان قوة مناسب للحوار والتفاوض مع المعارضة. وبالفعل قبلت الرئاسة الورقة التي عرضناها عليهم كاملة دون أي تغيير، بما يقتضي تغيير الدستور للتحول نحو نظام برلماني أو شبه رئاسي بصلاحيات كبيرة للبرلمان ورئيس الوزراء الذي ينجح حزبه، علاوة على تغيير قانون الانتخابات وتشكيل هيئة وطنية لتنظيم الانتخابات بالتشاور الكامل مع المعارضة، ولم نكن نحتاج إلا لستة أشهر أو سنة لتحقيق كل ذلك لتُنظم عندئذ انتخابات رئاسية لا يترشح فيها الرئيس بوتفليقة وقد تكون معها انتخابات تشريعية متزامنة.

لقد كانت والله فرصة عظيمة، ولم يكن مطلوبا سوى أن تقبل المعارضة بهذا الانتقال السلس وقد كلفت بالاتصال بهم، وأن تقبل قيادة الأركان الخطة وكلف شقيق الرئيس بالاتصال، وإني لأشهد أمام الله أن المعارضة ليست هي من ضيع الفرصة وإنما رفضُ المخطط الذي اقترحناه وقبلت به الرئاسة جاء من داخل نظام الحكم، إذ بُلِّغت رسميا في مقر الرئاسة بأن القرار قد اتخذ بالمرور للعهدة الخامسة ـ خلافا لرغبة الرئيس المريض الفاقد للأهلية ـ وأنها ستمرر بلا عناء! وكأن الرسائل التي جاءتهم من خنشلة ومن خراطة والعديد من جهات الوطن لم تنبههم.

بعد يأسنا من تحقيق التوافق الوطني قررنا الترشح للانتخابات الرئاسية وأعلنا عن ذلك في 26 يناير 2019 وكان يدفعنا إلى هذا الخيار ما كنا نخشاه من تآمر من جهات عديدة من داخل الحكم وجهات أيديولوجية على تنظيم استخلاف لبوتفليقة حتى وإن رشح هذا الأخير نفسه، ثم جاء الحراك فتأجلت الانتخابات.

 عندما أعلن عن ترشح الرئيس تعمّق الاحتقان بشكل متسارع، وساعد في تضخمه قوى من داخل النظام السياسي ممن كانوا يتصارعون مع مهندسي العهدة الخامسة المسيطرين على الرئاسة.

لقد كانت الأسباب المشكلة للاحتقان كثيرة، اقتصادية واجتماعية وسياسية، ولكن شعور الجزائريين بالهوان أمام الشعوب أن يرأسهم لعهدة جديدة رئيس غائب لمدة عهدة كاملة سابقة هو الصاعق الذي فجر البرميل.

لقد كنا في حركة مجتمع السلم أدرى من غيرنا من حالة الضياع التي كانت فيها الدولة. وبعد فشل محاولتنا لتحقيق انتقال ديمقراطي تاريخي على أساس تحول كان جاريا لميزان القوة يعفي بلدنا من مخاطر المواجهة أدركنا بأن الثورة وشيكة، بنا أو بغيرنا، فشرعنا في تحضير أنفسنا لها بتعميمٍ لكل هياكلنا بأن يستجيبوا لدعوة النزول للشارع يوم 22 أبريل، وفي يوم الجمعة الأولى نزلنا ضمن مجموعة قيادية في الساعة الأولى، وكان بعض مناضلينا من الجرحى الأوائل، وطلائع المقبوض عليهم، ومنهم  ابني الذي أصيب في وجهه بشظية كادت تصيب عينه.

لا ندري لعل الحراك صنع ثقافة عامة كامنة سيصطلح بها العمل السياسي ولو بعد حين، لعل تلك الثقافة تنشئ تيارا شعبيا عاما يُبدع طرقا سلمية غير تقليدية للتغيير لصالح الجزائر وكل الجزائريين.
قررنا في الحركة أن نشارك في الحراك ولكن لا نتصدر الجموع لكي نحفظ الفرصة من الصراع الحزبي، ولكن كنا ندرك أن تلك الجموع الهادرة في الشوارع لن تحقق إنجازا إن لم تجتمع القوى السياسية والاجتماعية على رؤية جماعية قائدة، لذلك رجعنا لأقطاب تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي لنستأنف التنسيق، وقلت لرئيس التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية آنذاك بأنكم كنتم تقولون "لا معنى للانتقال الديمقراطي دون النزول للشارع، وحا نحن الآن جميعا في الشارع فلما لا نعود لمشروع مازفران والانتقال الديمقراطي المتفاوض عليه؟" فقال لي: "لا ننسق إلا مع من يعملون من أجل القطيعة"، وقد اتضح بعد ذلك بأنها كانت رغبة لاحتكار الحراك بسبب حاضنتهم الاجتماعية الكبيرة في الجزائر العاصمة التي تمركزت في ساحات البريد المركزي (خلافا لضعفهم الشعبي في أغلب ولايات الوطن الأخرى). فكان ذلك الموقف وتلك التصرفات السياسية بداية تفكك الحراك وضياع الفرصة الشعبية العامة.

لم نتوقف عن الحوار والبحث عن المساحات المشتركة مع الأحزاب والمنظمات، وكان اجتماع "المنتدى الوطني للحوار" في عين البنيان فرصة أخرى ضائعة إذ رغم نجاحه في جمع أعداد هائلة من الأحزاب والجمعيات من مختلف التيارات لم يستطع جمع كلمة المعارضة، بسبب غياب أحزاب التيار العلماني، وبسبب عدم الاهتمام به من قبل السلطات التي تحكمت في الأوضاع بعد حالات الاضطراب في الأسابيع الأولى.

إن الأطراف التي لم تهتم بالملتقى الوطني للحوار، من المعارضة العلمانية والقوة الصلبة في السلطة،  هي التي تسببت في ضياع فرصة تحقيق نتائج الحراك لصالح الجزائر وكل الجزائريين. لقد كان كل طرف من هذين الطرفين يسعى لاحتوائه وحده لأسباب سياسية وأيديولوجية. وكان كل طرف من الطرفين، علاوة على ذلك، يتهيب من التيار الإسلامي أكثر من الآخر، ويعمل كلاهما على وضعه في الزاوية المهملة بالرغم من أنه يمثل الأغلبية الانتخابية المعبر عنها في كل انتخابات لو لا المنع والتزوير الانتخابي. وكان الإسلاميون ذاتهم متفرقين يخاصم بعضهم بعضا حتى داخل الحراك، وبعضهم يستعد أن يُركب ويخدم مشروع غيره من أجل الانتقام أو مصالح حزبية أو شخصية ضيقة للأسف الشديد. فلم تكن المعطيات، لهذه الأسباب وغيرها، مشجعة لتحقق المأمول من الهبة الشعبية.

ومن غرائب الأحداث أن الجهة التي فرضت العهدة الخامسة داخل السلطة (وأنا شاهد أمام الله على ذلك) وتهجمت على الجماهير في الحراك بنعتهم "شرذمة" هي ذاتها التي تبنته بعد ذلك وضغطت على بوتفليقة لكي يستقيل. لقد أدركت هذه الجهة بأن ثمة جناحا آخر من السلطة يستثمر في الحراك وله قدرة على تجنيد  بعض قادة الأحزاب والجمعيات وخصوصا أحزاب التيار العلماني المتمركز شعبيا في ساحات البريد المركزي، فسبقته في تبني الحراك، ولم يكن أحد من هؤلاء أوهؤلاء صادقا في تحقيق المطالب الديمقراطية للحراك، وإنما كانت “لعبة سلطة ونفوذ” أدت  إلى كسر العظام بينهم في الأخير، ولا تزال التدافعات قائمة إلى الآن، ولم يكن رفضنا لاقتراح مرحلة انتقالية يقودها اليامين زروال التي جاء إليها بعض رؤساء المعارضة متحمسين في لقاء تنسيقي عُقد في مقر أحد الأحزاب بزرالدة إلا لعلمنا بتلك اللعبة.

اشتد الصراع بين الأطراف المتصارعة داخل الحراك، وأقحم فيه الصراع العرقي بشكل مقيت أنشأ عداوة جاهلية بين الجزائريين لم يعرفوها من قبل، وبدل حل كل المشاكل وإزالة مخاوف مختلف الأطراف بالحريات والديمقراطية ودولة القانون، أدى الصراع في الحراك إلى تحكم النظام السياسي من جديد في الأوضاع، وفي وقت مبكر قبل كرونا بات واضحا بأن الاستقطاب الشديد داخل وحول الحراك قد ضيّع الفرصة.

رغم تراجع حماس مناضلينا في المشاركة في الحراك بسبب الاستقطاب بقينا نحافظ على التزامنا بالحضور كل جمعة، وحينما قُرّر تنظيم الانتخابات الرئاسية في 12/12/2019 رُجّح قرار عدم المشاركة بسبب استمرار بقاء الناس في الشارع وللنّأي بالنفس من أن يُسجّل في تاريخنا بأننا كنا من المتسببين في وقف حراك الجزائريين من أجل الحريات، وبقي الاختلاف في الرأي مستمرا طويلا بيننا، هل كان رأينا سديدا أم لا؟

ولكن مهما يكن من أمر لم نتسبب أبدا في تفريق الناس في الحراك، ولا كنا مسؤولين عن الاستقطاب الذي حصل، ومهما كانت خسارة عدم مشاركتنا في الانتخابات الرئاسية فلن يُكتب علينا التاريخ بأننا ممن تسبب في وقف تلك الهبة الشعبية التاريخية، إلى أن جاءت كورونا فأعطت غطاءً أخلاقيا لمن بقي وفيا دون فاعلية ليتوقف دون تأنيب الضمير .

وفي المحصلة لم ينجح أحد من كل المكونات السياسية، ولئن اعتُقد بأن الجهة التي فرضت العهدة الخامسة ثم انقلبت عليها بسبب الحراك هي التي نجحت فقد دارت عليها الدائرة من بعد، ومن كان في الشارع وفي أروقة الحكم يواجهها صار إلى أضعف ما يتصور في تاريخه، وبقيت البلاد كلها تترنح فلم ينجح بضياع فرصة الحراك أحد في البلاد، وتشكل لدى قطاعات واسعة، حتى عند المتحزبين بأن الإصلاح من الداخل أمر مستحيل، وأن بقاء العمل السياسي تحت سقوف التحكم السلطوي ما هو إلا تفاهمات ضمنية بين مكونات الساحة السياسية محصلتها لصالح الأشخاص وليس لصالح البلد ونهضته. ولكن لا ندري لعل الحراك صنع ثقافة عامة كامنة سيصطلح بها العمل السياسي ولو بعد حين، لعل تلك الثقافة تنشئ تيارا شعبيا عاما  يُبدع طرقا سلمية غير تقليدية للتغيير لصالح الجزائر وكل الجزائريين. 

*الأمين العام لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة، الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم