قضايا وآراء

في النظرة للساحة السورية.. والفرصة‎

بلال اللقيس
الإسرائيلي "أمعن في سياساته لتدمير وتقسيم سوريا"- الأناضول
الإسرائيلي "أمعن في سياساته لتدمير وتقسيم سوريا"- الأناضول
أن تبقى سوريا موحدة هو أصل وليس تفصيلا، وأن يكون هناك حكم نابع من إرادة ذاتية وليس تابعا لخارج، لأي خارج فضلا عن أن يكون مستتبعا، فهذا أصل ثان، وأن نصل إلى ميثاق اجتماعي في سوريا يحقق ولو نسبة من الاطمئنان للمكونات ويساوي ما أمكن بين الحقوق فهذا ضرورة ومبدأ لا يمكن تجاهله أو التحايل عليه، وأن نخرج من أسر الماضي وضغائنه وننفتح على المستقبل فهذا مطلب غالبية السوريين..

وأن لا تتأخر المرحلة الانتقالية وتجد الأطراف الطريق إلى صندوق الاقتراع لدستور جديد حتى لو كانت الظروف معقدة ومنقوصة نسبيا (بالمعنى الديمقراطي)؛ فهذا مبدأ ثالث لا يصح التأخر عنه!! وأن يتم الاستدراك وتجنب الفراغ فلا يُحل الجيش ولا المؤسسات ولا العاملون فيها، والتوجه لاستيعاب المجتمع بدل طرده من البنية الجديدة، فهذا أخطر تحديات التحول بين سقوط نظام وإيجاد آخر، وأن تبادر القوى في المجتمع السوري لتمييز خطابها عن جماعات التكفير والتطرف وتحسم رؤيتها للسلطة من كونها هدفا أم إحدى وسائل استنهاض الأمة والشعوب! فهذا أمر لازم وملحّ، فالتمايز ضروري الآن.

مبادئ وقواعد حاكمة لا أظن أحدا يطالب أو يحاول اختبارها مجددا أو التهاون بها في الساحة السورية، وإلا يكون عقيم الفكر، ولا يعرف ما هي حاجة شعوبنا ومنطقتنا اليوم، فهنا مكمن الخطر لأنه قد يسير بخط معاكس

وعلى الدول العربية والإسلامية الراعية لنظام الحكم الانتقالي أن تستظهر أن مستقبل سوريا لا يمر من خلال منظورها هي وإرغاماتها، فالمسألة أعقد بكثير، ففي سوريا إما أن يتوافق الجميع أو يخسر الجميع. ويجب أن تتنبه أيضا إلى أنّ هذه المنطقة لا تستقيم مقاربتها السياسية بعقلية أقليات وأكثريات..

كل هذه مبادئ وقواعد حاكمة لا أظن أحدا يطالب أو يحاول اختبارها مجددا أو التهاون بها في الساحة السورية، وإلا يكون عقيم الفكر، ولا يعرف ما هي حاجة شعوبنا ومنطقتنا اليوم، فهنا مكمن الخطر لأنه قد يسير بخط معاكس.

إن حاجتنا كشعوب اليوم هي أولا استعادة الكرامة حتى قبل الرغيف، وبغيابها ستبقى الأمة ومكوناتها تتأرجح في أزماتها دون بوصلة. نحتاج بوصلة لا تخطئ ولا تغير الاتجاه عند كل عارض لنبني هوية ثابتة ونستقيم عليها، وإلا سيبقى التطرف ملاذا لكثير من فئات شبابنا، كتعبير عن فقدان التوازن الكلي.

يحتاج الأمر لخطاب فيه حد أدنى من الحصافة والصدق والشفافية والثقة بالمجتمعات بدل تجاوزها الدائم. شعوبنا بحاجة لوضوح وشفافية وابتعاد عن الضبابية لتبني ثقة والتزاما واعيا لا عصبويا، فلا يمكن الاعتماد على دول هيمنة لبناء استقلال، ولا يمكن الرهان على أمريكا للتصدي لإسرائيل ولا الرهان على الأحزاب الديمقراطية في الغرب لمواجهة نتنياهو، وكأنّ الغرب غربان وليس كله عدو للأمة بأجنحته المختلفة!! وهل يمكن الاستعانة بأمريكا لإنهاء وإضعاف إسرائيل؟!..

إن التأرجح في الخطاب يضعف الثقة بأي مشروع سياسي ويجعل التعويض عند العموم بالعودة إلى العنوان المذهبي لملء الفراغ وجبره، فيزداد تمذهبا وتطرفا كنوع من بحث عن هوية. إن التذبذب يُضعف الجيل الاجتماعي الإسلامي ويؤدي إلى اختلال التوازن، ويعمق الشقاق والمذهبية والجهوية والمناطقية وكل صنوف الانقسام، وأحيانا قد يصل التطرف لحد أن يؤلّه الدولة القومية والوطنية فلا يبني حضارة وتجربة تحتذى!! وأيما مشروع لا يبنى بالشفافية والوضوح والانسياب في الخطاب ومحاكاة المستقبل والحاجات العميقة سيبقى أسير الماضي ودوائره بدل أن يبني المستقبل.

إنّ عموم الناس في عالمنا ومنطقتنا خصوصا؛ يريدون في أعماقهم خطاب الانفتاح على الكرامة الإنسانية الذي هو جوهر الدين وحقيقته، فما نراه اليوم من الصهيونية هو تهديد للمعنى والقيم والكرامة والحقوق والشعوب، وهو استهانة بنا كعرب ومسلمين. والأمة كانت ولا تزال جاهزة للبذل على هذا الطريق حتى لو شحّت الإمكانات المادية (هكذا تقول تجربة مقاومة غزة ولبنان واليمن..). أليس من المفارقات أن غزة التي تُكسبنا بدمها وصبرها وتدعونا لنستثمر مكانة في عالم يولد، ولا ترانا نُقدم؟! غزة تحدثنا عن انتصار الدم على السيف وعن صراع الإرادة الذي لا يمكن أن يخبو أو يضعف، بل سينتصر.. تحدثنا عن عظمة وشهامة مجتمعاتنا فتفضح عبودية أنظمتنا وحكامنا وتدلنا على سجن السلطة الذي تقبع هذه المجتمعات فيه. غزة تحدثنا عن إمكانية فعلية لصناعة هوية تتحدى وهوية لائقة وهوية تجتذب وهوية تنفتح على البشرية وتجعلنا في مكان لائق بين الأمم، بدل امتهان "التبعية أو التطرف".

نظن أنّ الطريق الوحيد، نعم الوحيد الذي لا ثاني له ولا بديل عنه؛ الممكن والواعد والمتاح هو المقاومة، نعم المقاومة دونما تردد، الطريق الوحيد المنقذ هو اجتماع أجنحة الأمة على خيار المقاومة الشاملة، فهو الوحيد القادر على جمع الكل وصهرهم والإفادة من كل إسهام دون استثناء على طريق رؤية مستقبلية حضارية.. مقاومة الشعوب التي لا تميز بين النظام الأمريكي و"إسرائيل" وتضيّع جهودها بالبحث عن تناقضات بينهما، بل تلك التي تراهما عدوّا واحدا للأمة وللإنسانية جمعاء. المقاومة التي تنادي لا على أساس مذهبي ولا حتى انتماء أيديولوجي، بل على أساس فكرة المقاومة وخيارها التحرري الذي هو صلب الدين والشرائع ومتنها.. المقاومة التي تصنع هوية راسخة لا أوهام، لأنها تعبير عن الاعتدال الكلي والتوازن الطبيعي في المسار الإنساني، المقاومة التي تصر على تمييز نفسها عن التطرف والمتطرفين وعن الانبطاح والمنبطحين وعن التقليد والمقلدين، وتراهن على إرادة الأمة والشعوب وإبداعها فحسب.

نحتاج اليوم قبل الغد إلى ميثاق يحدد أكثر صيغ التعاون البيني وهي كثيرة ومفتوحة، وأن نبدأ العمل بدل الاستفراد بأنظمتنا كل على حدة؛ لا يعني ذلك الحرب الكبرى، بل يعني ذلك إنتاج نظرية المقاومة وأدواتها المتوافرة والتي تحتاج بعض التطوير والتعديل والتوسعة

إنها الطريق الوحيد المنجي لنا جميعا، فهل لنا أن نجعل نظرية المقاومة فوق كل اعتبار ونجعلها أولوية الأولويات ومدخلنا للتمكين (لمن يأخذ به) ولبناء الحضارة الإنسانية (لمن يتبناها)؟ المقاومة المرتكزة إلى الشعوب هي سبيل أمتنا للتقارب والنهضة. لم تنته المقاومة الفرنسية بتحرير الأرض الفرنسية، بل استمرّت لإنهاء المادية، هكذا سلكت وهكذا قدمها كبار الفلاسفة حينها، وليس آخرهم جان بول سارتر وغيره؛ حين اعتبروها ملكا لكل المجتمعات، بل ملك الإنسانية ومدماك التشبيك بين المجتمعات الأوروبية ومقدمة الاتحاد لاحقا، لقد بنت المشترك من قلب التحدي النازي.

الآن، الكيان الصهيوني الذي يتوحش أكثر، يعاني التخبط وغياب الرؤية نتيجة صمود غزة وجبهات المقاومة، وإنجازاته لا زالت معلقة بينما مسوغات المقاومة تزداد وتتقدم بزخم وتتشابك ساحاتها واقعا وتتقوى إرادتها أكثر فأكثر. اليوم قد تكون مسوغات المقاومة صارت أنضج وأوضح في ساحة سوريا أكثر من أي وقت مضى. وليس خافيا أن المشروع الأمريكي الإسرائيلي لو نجح بعد سنتين من القتل في غزة أو لبنان أو اليمن أو مؤخرا في جولته الفاشلة مع إيران، لكان مسار سياساته في المنطقة كله قد تغير، وربما لما أمعن في سياساته لتدمير وتقسيم سوريا كما يحدث اليوم، لكنه يزداد قلقا وآماله ومخاوفه على المستقبل تتعمق (أكدت الاستطلاعات الأخيرة ذلك)!

لا زلنا في قلب المعركة ولا زالت الفرص محتملة وممكنة كما التهديدات، لذلك فإنّ تشابك وتعاضد الأصول المشتركة بين مكونات الأمة يحتاج إلى سبيل، والسبيل لا يمر إلا بنهج المقاومة ومسلكه، وهذه لحظة لتعريف إرادة مستقلة ومتحدة للأمة، وكل يوم تأخير ليس من مصلحة سوريا ولا تركيا ولا فلسطين ولا المنطقة ولا كل الأمة. نحتاج اليوم قبل الغد إلى ميثاق يحدد أكثر صيغ التعاون البيني وهي كثيرة ومفتوحة، وأن نبدأ العمل بدل الاستفراد بأنظمتنا كل على حدة؛ لا يعني ذلك الحرب الكبرى، بل يعني ذلك إنتاج نظرية المقاومة وأدواتها المتوافرة والتي تحتاج بعض التطوير والتعديل والتوسعة. المنطقة اليوم بمقدار ما تواجهه من تهديد بمقدار ما فيها من فرص لإنتاج واقع جديد؛ فيه من المتانة والثقة ما يكفي للارتكاز عليه في زمن السيلان.
التعليقات (0)