قضايا وآراء

نقاش الشأن الإسرائيلي الداخلي في الإعلام العربي زمن الحرب.. الحيّز وسؤال الجدوى

أحمد عطاونة
"هذه الحرب ليست حرب نتنياهو، بل هي حرب يشنها كيان فاشي استعماري متطرف"- جيتي
"هذه الحرب ليست حرب نتنياهو، بل هي حرب يشنها كيان فاشي استعماري متطرف"- جيتي
في ظل حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، يكثف الإعلام العربي من تغطيته للشأن الإسرائيلي بمكوناته المختلفة، السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية وغيرها، وهو أمر محمود من حيث المبدأ، لما يتيحه من فهم لطبيعة الكيان وتفسير سلوكه، لكن ما يلفت الانتباه هو الحضور الطاغي لهذا الموضوع وإعطائه مساحة كبيرة من الاهتمام والنقاش، وهو ما يدفع نحو تساؤلات حقيقية حول أولويات النقاش الإعلامي في زمن الإبادة وشكل التغطية ومضمونها.

تزدحم قنوات التلفزة العربية، بالذات المساندة للقضية الفلسطينية، بالمحللين والخبراء في الشأن الإسرائيلي بمستوياتهم وخلفياتهم المتعددة، إلى الحد الذي يجعل غالبية ما يستمع له المشاهد العربي على شاشات التلفزة هو تحليل للمواقف الإسرائيلية ومحاولات لقراءة البيئة السياسية الداخلية الإسرائيلية ومواقف الأحزاب والنخب السياسية والفكرية، فضلا عن الكم الهائل من الترجمات للأخبار والمقالات العبرية، التي يتولى أمرها عدد كبير من المواقع الإخبارية والبحثية وقنوات ومواقع التواصل الاجتماعي. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن المشاهد العربي المهتم، قد يعرف أسماء السياسيين والمحللين والكتاب الإسرائيليين أكثر من معرفته لغيرهم في المنطقة. فما الفلسفة وراء ذلك؟ وما تبعات ذلك على الرأي العام العربي والفلسطيني؟ ما تأثيره على صانع ومتخذ القرار العربي والفلسطيني؟ وهل حقا ما يترتب على ذلك من إيجابيات وفوائد يفوق ما قد يترتب عليه من مخاطر وتحديات؟

نقل وترجمة آراء العديد من المحللين الإسرائيليين الذي يتقاطعون مع ذات المضمون الذي يبدو معتمدا بالأساس على رواية وموقف اليسار الإسرائيلي، مركزين على شخص بنيامين نتنياهو، ومحاولة حصر استمرار الحرب في موقفه ومستقبله السياسي، والتعويل على الخلافات بينه وبين بعض أركان الكيان العسكرية والأمنية والسياسية، وصولا إلى التفريق بين الكيان كمؤسسة متكاملة وحكومته ووزرائه، ظنا من البعض أن ذلك قد يزيد من الهوة والشرخ بين مكونات الكسان والسياسية والعسكرية والأمنية

رغم طول أمد المعركة، بدت التغطية الإعلامية العربية، ثابتة وكلاسيكية من حيث الشكل والمضمون، إذ انصبت ساعات طويلة من البث اليومي على استضافة عدد كبير من المختصين في الشأن الإسرائيلي، يتبنون منطقا ومقاربات متشابهة، بالإضافة لنقل وترجمة آراء العديد من المحللين الإسرائيليين الذي يتقاطعون مع ذات المضمون الذي يبدو معتمدا بالأساس على رواية وموقف اليسار الإسرائيلي، مركزين على شخص بنيامين نتنياهو، ومحاولة حصر استمرار الحرب في موقفه ومستقبله السياسي، والتعويل على الخلافات بينه وبين بعض أركان الكيان العسكرية والأمنية والسياسية، وصولا إلى التفريق بين الكيان كمؤسسة متكاملة وحكومته ووزرائه، ظنا من البعض أن ذلك قد يزيد من الهوة والشرخ بين مكونات الكسان والسياسية والعسكرية والأمنية.

تساؤل الجدوى يصبح أكثر إلحاحا إذا ما علمنا أن آراء المحللين العرب والفلسطينيين لا تنقل عبر قنوات التلفزة الإسرائيلية أو مواقعها الإخبارية، ولا تكاد تجد ترجمة عبرية لأي نقاش أو تحليل لأي من المحللين العرب المختصين في الشأن الإسرائيلي على كثرتهم، ولا ينقل الإعلام العبري عن أي من الفضائيات والمواقع العربية رغم سعة انتشار بعضها، سوى بعض الأخبار والتصريحات العاجلة والحصرية المرتبطة في الغالب بقيادات المقاومة أو زعماء وسياسي المنطقة. وذلك عائد إلى عوامل وسياسات وثقافة إسرائيلية داخلية ليست محل نقاشنا.

ما الذي ينبغي أن يعرفه المشاهد العربي عن إسرائيل؟

لا شك أن التركيز على التطورات السياسية والفواعل والديناميات في الساحة السياسية الإسرائيلية يستند إلى منطق، فالأمر يعتبر حيويا ومهما للمشاهد العربي وللنخب وصناع القرار، وتزداد أهميته في زمن الحرب والإبادة الجماعية. ولعل معرفة الطرف الآخر، العدو، استنادا لقاعدة "اعرف عدوك" هو أمر في غاية الأهمية، لكن طبيعة وحجم التغطية هو ما ينبغي نقاشه ومراجعته. فإغراق الفضاء السياسي والإعلامي العربي بالترجمة الحرفية لما يصدر عن الإعلام العبري، وترجمة ما يقوله محللو القنوات الإخبارية العبرية وبعض القيادات، في قراءة وتحليل السلوك السياسي الإسرائيلي، قد يقود إلى خلل كبير في رسم صورة موضوعية ومتزنة للمشهد الذي يحيط بالحرب على غزة. ويمكننا هنا تسجيل بعض الملاحظات أو النقاط الهامة المرتبطة بهذا السلوك الإعلامي العربي:

1- لا ينبغي المس بتعريف ما يحدث في غزة بوصفه حرب إبادة جماعية يقوم بها الكيان الصهيوني، بوصفه كيانا (دولة) ووحدة سياسية وأمنية وعسكرية واحدة، وأن الحكومة الفاشية التي يقودها نتنياهو هي المعبّر القيادي والسياسي الحقيقي والوحيد عن الكيان ما دامت تسيطر على الحكم فيه، وتحظى بأغلبية في الكنيست (البرلمان) وتنصاع لها كل أجهزة الدولة، من جيش وأجهزة استخبارات وأعلام.. الخ.

2- إن سلوك دولة الاحتلال، والتطورات داخله على أهميتها، جزء من المشهد، ولا ينبغي إغفال الأجزاء الباقية التي لا تقل أهمية عنه، بل هي أكثر أهمية تجاه القدرة على وقف الحرب ولجم العدوان ووقف الإبادة الجماعية، كالعالم العربي والإسلامي، والقوى الدولية المختلفة، وحتى البيئة السياسية الداخلية الفلسطينية، وهو ما لم يحظ بذات النسبة من الاهتمام. فتجد على الفضائيات الأهم والأكثر انتشارا في العالم العربي، عشرات المحللين و"المختصين" في الشأن الإسرائيلي، بحضور شبه دائم على الشاشة، فيما لا تكاد تجد من يقرأ المشهد والسلوك العربي/ الإسلامي والدولي إلا عندما يقع حدث استثنائي.

3- إن سلوك الشعوب والأحزاب السياسية والدول والمنظمات الإقليمية والأهلية في العالم العربي والإسلامي يحتاج ليس فقط لتسليط الضوء عليه، بل وتحليله بعمق ومحاولة إدراك إشكالياته والعقبات التي تقف أمام تضامنه وتحركه الضاغط لوقف الإبادة، والبحث في سبل التعاطي الواعي والموضوعي معها، الأمر الذي لم تتبنه أي من وكالات الأخبار العربية.

4- إن تسليط الضوء على مواقف وسلوك القوى الفاعلة على المستوى الدولي، والتعمق في قراءتها أمر في غاية الأهمية، خاصة في ظل الضعف العربي والإسلامي. إن فهم طبيعة التحولات في القارة الأوروبية ومدى تأثيرها على سياسات الدول هناك، وقراءة معمقة للمواقف والسلوك الروسي والصيني والهندي وغيرها من الدول الفاعلة؛ أمر حيوي لفهم مسار هذه الحرب ومآلاتها، وعلى ماذا يمكن أن يعوّل الفلسطيني والعربي في هذه المعركة وماذا ينتظر من هذا العالم وقواه المختلفة؛ لهو أمر لا يقل أهمية عن فهم المشهد الإسرائيلي وتطوراته.

5- الأهم من هذا وذاك هو سلوك وأداء المكونات الفلسطينية المختلفة، وكيفية تعاطيها مع الإبادة الجماعية في غزة، فلماذا لا يتم التوقف طويلا وعميقا أمام سلوك منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية والفصائل المختلفة لا سيما المؤثرة منها؟ لماذا لا يتم التوقف مليّا أمام السلوك الشعبي في جغرافيات التواجد الفلسطيني المختلفة، والتعمق في قراءة الظروف التي تعيشها، وما الذي حال ولا زال بينها وبين الانخراط الفاعل في مواجهة العدوان ولو بالحد الأدنى من الفعل؟

6- بما أن كل الساعات الطويلة للتغطية اليومية وكل هذا العدد من المحللين لا يؤثر في الرأي العام الإسرائيلي، حيث لا يسمعه أحد من الإسرائيليين، وبالتالي فهو لا يؤثر في مسار المعركة أو القرارات الخاصة بها، وبما أن فهم سلوك الحكومة الإسرائيلية من قبل المواطن العربي لا يؤثر إيجابا في سلوكه تجاه الحرب ولا يشكل حافزا لتحركه لنصرة الفلسطينيين وقطاع غزة، بل قد يدفعه للاعتقاد بأن هذه حرب نتنياهو الشخصية وقد تنتهي بسقوطه وعبر تحولات داخلية في إسرائيل، وبما أنه لا يستطيع أن يؤثر في الحراك السياسي الإسرائيلي الداخلي فهو بالتالي لا يستطيع أن يؤثر في مسار المعركة شيئا، وعليه فما الجدوى من كل هذا الوقت ومن كل هذا التركيز على الشأن الداخلي الإسرائيلي، خاصة أن المواطن العربي يعرف جيدا ويعي جيدا طبيعة إسرائيل كقوة احتلال غاشم خبرها لعقود طويلة؟

تقديم دولة الاحتلال على طبيعتها، وتقديم حقيقتها كما هي، هو الأَولى، وبالذات في زمن حرب الإبادة، فإنكار حقوق الشعب الفلسطيني، بل وإنكار وجوده، وانتشار الفكر الفاشي والمتطرف، وسيطرة اليمين واليمين الفاشي على المشهد السياسي، وسيطرة التوحش والعدوانية على مكونات الكيان؛ هي الصورة الحقيقة التي ينبغي أن يعرفها كل مواطن عربي، وهي ما ينبغي أن يتعامل معه صانع ومتخذ لقرار الفلسطيني والعربي

7- هذه الحرب ليست حرب نتنياهو، بل هي حرب يشنها كيان فاشي استعماري متطرف، حدث فيه انزياح كبير نحو اليمين واليمين الفاشي على كافة المستويات، الشعبية والأمنية والعسكرية، وإن البحث عن التباين بين المستوى السياسي والأمني والعسكري لا يفيد المشاهد العربي كثيرا، بل لعله لا يفيد صانع القرار الفلسطيني، لأن الذي يخوض حرب الإبادة هو الكيان بكل مؤسساته ومستوياته. وعلى أهمية الوقوف على بعض الفوارق والاختلافات بين مكوناته، إلا أن سيرورة الحرب تشي بحجم الانسجام والتناغم والتكامل بين هذه المكونات، ولعل ما يعزز ذلك هو ما قامت به، ولا زالت، أجهزة الكيان الأمنية والعسكرية من عمليات عسكرية وأمنية في غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران، فهل كانت كل هذه العمليات النوعية لخدمة نتنياهو وبقائه في الحكم وعدم ذهابه إلى السجن؟! هل الاغتيالات في طهران وبيروت وغزة كانت لخدمة نتنياهو؟! وهل تدمير قطاع غزة بهذه الدرجة من الوحشية لإنقاذ شخص من القضاء والسجن؟! أم أنه توجه وسلوك كيان فاشي دموي منسجم مع ذاته، بمؤسساته المختلفة بما فيها الكثير من الأحزاب السياسية غير المشاركة في حكومة نتنياهو الفاشية؟ وقد ظهر ذلك جليا في الكثير من المواقف، لعل أبرزها حين أجمعت الأحزاب الصهيونية على رفض فكرة إقامة دولة فلسطينية من خلال التصويت على ذلك بأغلبية ساحقة في الكنيست الإسرائيلي بتاريخ 18 تموز/ يوليو 2024، حيث صوّت 102 عضو من أصل 120 مع قرار يرفض إقامة دولة فلسطينية ولم يعارضه سوى 9 أعضاء.

ختاما، فإن تبني رؤية ورواية اليسار الإسرائيلي الضعيف، إلى حد الانقراض، حول القضية الفلسطينية وحرب الإبادة على غزة، والذي يظهر جليا في التغطية الإعلامية العربية، لم يعد اليوم أمرا مناسبا، ولا يخدم القضية الفلسطينية والقضايا العربية، فضلا عن أنه لا يسهم في وقف العدوان على الشعب الفلسطيني، بل إن تقديم دولة الاحتلال على طبيعتها، وتقديم حقيقتها كما هي، هو الأَولى، وبالذات في زمن حرب الإبادة، فإنكار حقوق الشعب الفلسطيني، بل وإنكار وجوده، وانتشار الفكر الفاشي والمتطرف، وسيطرة اليمين واليمين الفاشي على المشهد السياسي، وسيطرة التوحش والعدوانية على مكونات الكيان؛ هي الصورة الحقيقة التي ينبغي أن يعرفها كل مواطن عربي، وهي ما ينبغي أن يتعامل معه صانع ومتخذ لقرار الفلسطيني والعربي.

هذه محاولة للفت الانتباه لما نعتقد أنه خلل منهجي لم يفت الأوان أمام تداركه وإصلاحه، علّه يساهم في وقف الإبادة الجماعية والتصدي لمخططات تصفية الوجود الفلسطيني على أرضه والإجهاز على قضيته، بل ويتعداه إلى ترسيخ إسرائيل بوصفها كيانا متغطرسا متوحشا لا يقدر أحد في المنطقة على مواجهته، وهو ما يعرض كل شعوب ودول المنطقة للخطر.
التعليقات (0)