لا يجوز للمثقف الإسلامي أن يبتعد عن
المشاكل الواقعية للمجتمع الذي يعيش فيه اجتماعية وسياسية وثقافية، بل عليه أن
يواكب ذلك وأن ينخرط فيه بالدرس والتفهّم والإسهام في العلاج، لكن ليس له أن يغرق
في خضمّ الأحداث اليومية والمشاكل الآنية، وأن ينصرف عن العوامل والأسباب التي
تحرّك تلك الأحداث والمشاكل انطلاقا من ذلك إلى رسم الرؤى الاستراتيجية لعلاجها
العلاج الجذري الذي لا يكتفي بعلاج الأعراض وإنما ينفذ إلى علاج العلل والأسباب.
إنها معادلة دقيقة في المراوحة بين الآني والاستراتيجي في انخراط
المثقف الإسلامي
في شؤون المجتمع الذي يعيش فيه، وشؤون الأمّة عامّة.
حاولت جهدي أن أقيم تلك المعادلة في مسيرتي
الحركية والثقافية. فمنذ نعومة أظفاري إلى الآن انخرطت في الشأن الاجتماعي بمخالطة
الناس بصفة مباشرة بجميع طبقاتهم وأعمارهم ومهنهم وكان لي من ذلك زاد لا يقدّر
بثمن، وانخرطت في الشأن السياسي بالمعايشة التلقائية في المناخ الأسري الذي كان
مناخا سياسيا، ثم بالانخراط الفعلي في الحراك السياسي منذ خمسين عاما بالتمام،
وشاركت في ذلك بما استطعت، وأعتزّ بأنني شاركت بفاعلية في الاستحقاقات الدستورية
بعد الثورة، ولا زلت أعايش الحراك السياسي مباشرة بما يتيسّر لي من ظروف.
غير أنني كنت كثيرا ما أفكّر في هذه المشاكل
الآنية والأحداث المستأنفة التي تعترض مجتمعنا والمجتمع الإسلامي عامّة، وفي
الأسباب التي تجعل هذا المجتمع يتعثّر أيّما تعثّر في انطلاقه نحو إنجاز التعمير
في الأرض (البناء الحضاري)، والتي هي الأسباب الحقيقية في هذا التعثّر، والتي إذا
لم يقع معالجتها بصفة جذرية فإنّ ظاهرة التخلّف متمثّلة في مظاهرها الآنية التي
نعايشها كلّ يوم سوف تبقى مستمرّة لا تنفع معها العلاجات السطحية والمعايشة
اليومية.
ليس للمثقّف الإسلامي أن يبقى رهين الأحداث اليومية غافلا عن الأسباب الحقيقية لتلك الأحداث، كما ليس له أن يبقى رهين الخيال المجرّد بعيدا عن مجريات الأحداث، وعليه أن يجتهد في إقامة المعادلة التي يراوح فيها بين الانشغال بالأحداث اليومية والمشاكل الآنية وبين الأسباب والعلل التي أنتجتها لينتهي من ذلك إلى رسم رؤى استراتيجية مستقبلية ليخرج المجتمع من مشاكله وينهض للتعمير في الأرض (البناء الحضاري)
وفي الانتقال من المعايشة اليومية للمشاكل
الاجتماعية بأبعادها المختلفة إلى الأسباب والعوامل والأسباب التي أدّت إليها
تبيّن لي أنّ هناك على الأقلّ أربعة أسباب رئيسية هي التي تحول دون انطلاق مجتمعنا
في النهضة المأمولة. أوّلها خلل في بعض المفاهيم الدينية الأساسية وخاصّة منها
المفاهيم العقدية التي هي أساس الدين. وثانيها، خلل في مدلول الحضارة (العمران)
وافتتان بمفهوم دخيل لا تستجيب له ثقافة الأمّة التي تجري في دمائها. وثالثها، خلل
في الفكر (أي منهجية التفكير) تجعل العقل متعثّرا في الوصول إلى الحقيقة وفي توظيفها
في الإنجاز العملي. ورابعها خلل في تنزيل أحكام الدين على واقع الحياة أدّى إلى تطرّفات ذات اليمين وذات الشمال نعايش منها
مظاهر كثيرة في واقعنا.
وفي المراوحة بين معايشة ظواهر الحياة
الآنية اليومية بما تعجّ به من مشاكل وبين النظر في العلل والأسباب لرسم رؤى
استراتيجية تيسّر لي بفضل الله أن أنجز أربع مؤلّفات في كلّ مشكلة منها كتاب أو
سلسلة كتب، ولا أدّعي في هذه المؤلّفات أنني أتيت بالحلول المطلقة، ولكنّني أدّعي
بأنّني لا مست العلل والأسباب، ونبّهت إليها، ودفعت إلى التفكير فيها، وبنيت على
ما أُنجز فيها من رؤى قديما وحديثا، وما كان ليتيسّر لي ذلك لو بقيت رهين الأحداث
اليومية والمشاكل الطارئة.
أمّا الكتاب الأوّل فهو سلسلة العقائد (
الإيمان بالله وبالنبوة وبالبعث وآثاره في الحياة. وكذلك كتاب الإنسان في العقيدة
الإسلامية) ، وقد بيّنت فيها أنّ الإيمان ليس منحصرا في الإيمان بالغيبيات ألوهية
ونبوة وبعثا، وإنما هو أيضا إيمان بالأحكام العملية القطعية المعلومة من الدين
بالضرورة مثل التكافل والحرية والتعمير، وأنّ جحودها ينقض الإيمان، وقد استقرّ في
أذهان كثيرين أنها ليست من الإيمان وإنما هي من نوافل الدين ونتجت عن ذلك آثار
سلبية على حركة البناء العمراني.
وأما الكتاب الثاني فهو: الشهود الحضاري
للأمّة الإسلامية بأجزائه الثلاثة (فقه التحضّر والعوامل والتجارب). وفيه بيّنت
أنّ الحضارة الإسلامية تنبثق من فلسفة إسلامية خاصّة، وأنها لا ينبغي أن تكون نسخة
من الحضارة السائدة وإن تكن مستفيدة منها، ولها عواملها وخصائصها المنبثقة من
ثقافة الأمّة، وأنّ طلب حضارة إسلامية من خارج هذه الثقافة تبوء بالفشل كما يصدّق
الواقع ذلك. وأما الكتاب الثالث فهو:
إصلاح التفكير بميزان القرآن. وفيه بيّنت أنّ الدين جاء بأحكام إيمانية وشرعية
وجاء أيضا بمنهج في التفكير، وأنّ هذا المنهج القرآني هو الذي أثمر الحضارة
الإسلامية، وقد وقع الخلل فيه فينبغي إصلاحه. وأما الرابع فهو: الدليل إلى فقه
التنزيل.، وفيه بيّنت أنّ تنزيل أحكام الدين على واقع الحياة يقوم على فقه خاصّ
يراعي ما يثمره هذا التنزيل من مصالح وهي غاية الدين فتنزّل الأحكام عند تحقق مقاصدها
وتؤجّل أو تدرّج أو تعلّق عند عدم تحقّقها في انتظار العمل على تحقيق الأسباب، وقد
وقع ويقع خلل كبير في ذلك في اتّجاه الحرفية والآلية فنتج التطرّف، وفي اتّجاه
التمييع فنتج التحلّل من الدين.
ليس للمثقّف الإسلامي أن يبقى رهين الأحداث
اليومية غافلا عن الأسباب الحقيقية لتلك الأحداث، كما ليس له أن يبقى رهين الخيال
المجرّد بعيدا عن مجريات الأحداث، وعليه أن يجتهد في إقامة المعادلة التي يراوح
فيها بين الانشغال بالأحداث اليومية والمشاكل الآنية وبين الأسباب والعلل التي
أنتجتها لينتهي من ذلك إلى رسم رؤى استراتيجية مستقبلية ليخرج المجتمع من مشاكله
وينهض للتعمير في الأرض (البناء الحضاري)
إنّ هناك جدلية ينبغي على المثقف الإسلامي
أن يقيمها في فكره، وهي جدلية الواقع والمجرّد، فواقع الناس، وما تجري به الحياة
الاجتماعية والسياسية هو مدرسة هامّة في ترشيد الرؤية الفكرية، والتأمّل الفلسفي
الاستراتيجي في أبعاد ذلك الواقع أسبابا ونتائج من شأنه أن يرشّد التعامل مع
الواقع لتغييره نحو الأفضل، وهذا منهج قرآني، فكثيرا ما نرى القرآن الكريم يوجّه
إلى النظر في حياة الناس الواقعية، وإلى أحداث الطبيعة الحسية، ولكنّه يوجّه أيضا
إلى استخلاص النتائج المستقبلية لتلك الظواهر الإنسانية والطبيعية، وذلك على غرار
قوله تعالى: "فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ
النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ" (العنكبوت/20).
وفي واقع حالنا في بلدنا لا شكّ أنّ اهتمام
المثقّف الإسلامي بالواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي بل والانخراط فيه بما
تقتضيه الحكمة أمر مطلوب، ولكن لا ينبغي الوقوف عند ذلك الحدّ، بل ينبغي البحث عن
الأسباب، واستشراف الحلول المستقبلية، فالمثقّف الإسلامي الحقيقي ليس هو الذي يرصد
الظواهر ويسجّلها ولا حتى الذي ينخرط فيها، وإنما هو الذي يفعل ذلك ولكن يتعمّق في
الفهم، وينفذ إلى الأسباب، ويستشرف المستقبل، ويقترح الحلول بقدر اجتهاده، والله
ولي التوفيق.