كتاب عربي 21

الإصلاح الديني والقياس الفاسد.. مشاتل التغيير (7)

سيف الدين عبد الفتاح
"الجانب الروحي هو بعد أصيل في الطبيعة الإنسانية"- الأناضول
"الجانب الروحي هو بعد أصيل في الطبيعة الإنسانية"- الأناضول
يمارس المحاماة دون استرشاد بثوابت القانون.. فاشل، يمارس الطب دون علم بأصوله.. دجال، يمارس الهندسة دون مراعاة لأسسها لحساب مصالح أخرى.. غافل، يدعو إلى الله دون دراية بطبائع النفوس.. جاهل.. هذه هي عين حال القائم بالعلم أو العمل السياسي، دون إدراك لمكان الدين في علمه أو عمله، فهو فاشل في إدراك كل المتغيرات التي يجب عليه التعامل معها. ودجال؛ لأنه يدعي إمكانية فصل الدين عن السياسة أو العكس، وغافل عن بُعد لا يمكن تنحيته في الطبيعة الإنسانية، وجاهل؛ لأنه لا يعلم عواقب هذا الفصل ولا يدري مردوده. فكيف نفصله عنا وهو أصيل فينا؟! كيف ننحيه جانبا وهو جزء منا؟!

فلا يعقل أبدا فصل الدين عن مختلف العلاقات الإنسانية، الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية، الداخلية منها والخارجية، فالجانب الروحي هو بعد أصيل في الطبيعة الإنسانية. إن غفلة الغرب لفترة من الزمان عن البعد الديني، وكونه لصيقا لإدراكات وأفعال الأفراد والجماعات، وإحلال هذا البعد بـ"أديان" أخرى مادية محضة هي فقط التي تدخل في الحسبان؛ إن هذه الغفلة أثارت جدلا معاصرا إزاء فشل هذه "الأديان المادية" في تحقيق السعادة والسلام لقاطني المعمورة. مفهوم الإصلاح الديني بعد هذه المقدمة يثير إشكالات ثلاث:

لا يعقل أبدا فصل الدين عن مختلف العلاقات الإنسانية، الاجتماعية، الاقتصادية، والسياسية، الداخلية منها والخارجية، فالجانب الروحي هو بعد أصيل في الطبيعة الإنسانية

أولها ترتبط بمفهوم الدين؛ وإذا كنا في هذا الصدد فإن الكتاب العمدة للشيخ محمد عبد الله دراز "الدين: بحوث ممهدة لتاريخ الأديان"، إذ يقول في عبارات بليغة: "نجد أن هذه المعاني الكثيرة تعود في نهاية الأمر إلى ثلاثة معان تکاد تکون متلازمة، بل نجد أن التفاوت اليسير بين هذه المعاني الثلاثة مَرَّده في الحقيقة إلى أن الكلمة التي يُرادُ شرحها ليست كلمة واحدة، بل ثلاث كلمات أو بعبارة أدقّ ‏ أنها تتضمن ثلاثة أفعال بالتناوب، بيانه أن كلمة "الدين" تؤخذ تارة من فعل متعد بنفسه: "دانه يدينه" وتارة من فعل متعد باللام: "دان له" وتارة من فعل متعد بالباء: "دان به"، وباختلاف الاشتقاق تختلف الصورة المعنوية التي تعطيها الصيغة.

(1) فإذا قلنا: "دانه دينّا" عنينا بذلك أنه "ملکه وحکمه وساسه ودبره وقهره وحاسبه وقضی في شأنه وجازاه وکافأه"، فالدين في هذا الاستعمال يدور على معنى الملك والتصرف بما هو من شأن الملوك من السياسة والتدبير والحكم، والقهر والمحاسبة والمجازاة.

(3) وإٍذا قلنا: "دان بالشيء" معناه أنه اتخذه دينا ومذهبا؛ أي: اعتقده أو اعتاده أو تخلّق به، فالدين على هذا هو المذهب والطريقة التي يسير عليها أمر نظريا أو عمليا، فالمذهب لكل امرئ هي عادته وسیرته كما يقال: "هذا دين وديدني".. ولا يخفى أن هذا الاستعمال الثالث تابِعٌ أيضا للاستعمالين قبله؛ لأن العادة أو العقيدة التي يدان بها لها من السلطان على صاحبها ما يجعله ينقاد لها ويلتزم باتباعها.

وفي النهاية فتعريف الدين بأنه "وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل"، ويمكن تلخيصه على حد قول دراز: "وضع إلهي يُرشد إلى الحق في الاعتقادات؛ وإلى الخير في السلوك والمعاملات".

ومصطلح الدين في كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" لصاحبه على عزت بيجوفيتش يحدده بداية بأنه يشير إلى معنى محدد هو المعنى الذي تنسبه أوروبا إلى "الدين" وتفهمه على هذا النحو، وهو أن الدين "تجربة فردية خاصة لا تذهب أبعد من العلاقة الشخصية بالله، وهي علاقة تعبر عن نفسها فقط في عقائـد وشعائر يؤديها الفرد وعليه، فلا يمكن اعتبار الدين مجتمعيا بل هو أمر شخصي، لا يتعداه إلى علاقات اجتماعية، سياسية، اقتصادية. وذكر الدين على أسماع شخص علماني "حداثي"، يثير لديه الأفكار التالية:

(أ) الدين هو مسألة شخصية تماما بين الإنسان وخالقه.

(ب) الدين قائم ابتداء على الأسطورة والميتافيزيقا المفعم بالخرافة، والحدس، والخوف، لأن الإنسان كان غير قادر على تفسير الظواهر الطبيعية وعلى تفسير وجوده ضمن منظومة الطبيعة والكون، وفقط عن طريق العلم والمعرفة يحوز الإنسان التقدم.

(جـ) الدين يعني الحجر على الاختلاف في الرأي، بما يعنى تقييد حركة الفكر والتعبير عن الرأي. وهذه الفكرة عن الدين تحديدا نابعة من خبرة الكنيسة الكاثوليكية السلبية.

وثانيها تتعلق بالخبرة الغربية في الإصلاح الديني؛ فإذا كنا قد تطرقنا فيما سبق إلى مفهوم الإصلاح وأكدنا على طبيعته الشاملة والمقصدية وارتباطه الوثيق بالسياسة، ونبهنا إلى بعض الأفهام الشائعة الملتبسة والمرتبكة التي تتعلق بالمفهوم الإصلاحي المركب والمتكامل؛ فقد كان تأخير مفهوم الإصلاح الديني والمقصود به أمرا سائغا بما يشكل خلطا معيبا وقياسا فاسدا وجبت الإشارة إليه والتنبيه عليه؛ ومن ثم كان هذا التركيب الذي راكم معاني التلبيس التي قد تفضي في بعض مراميها إلى التدليس المعتمد في عرفهم والمتعمد في إرباك الحالة الثقافية والمسألة الدينية والمرامي الإصلاحية والمقاصد النهضوية والتغييرية.

الإصلاح الديني إذا يشير إلى خبرتين لا يميز البعض بينهما؛ خبرة الإصلاح الديني المسيحي في الغرب ومفهوم الإصلاح الديني كمصطلح نشأ في البيئة الدينية للغرب المسيحي، والظروف التاريخية التي افترضته إثر الانشقاق الكبير الذي شهدته الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر الميلادي، وأدت إلى ظهور البروتستانتية عبر مارتن لوثر وجون كالفن كحركة احتجاج على سكونية الكنيسة وتأخرها عن اللحاق بحركة الحداثة.

لقد تمتعت السلطات الكنسية بامتيازات وفيرة جعلت منها مترفة تعيش حياة البذخ والغنى، في وقت كان المجتمع المسيحي الأوروبي غارقا بالفقر والفاقة والعوز! وبدت الكنيسة بالترف بعد تحول الإمبراطورية الرومانية إلى الديانة المسيحية في القرن الرابع الميلادي، بعد أن قام الملوك الرومان بالإنفاق على الكنيسة ورجالها الأموال والهدايا والعطايا ولا سيما الأراضي الواسعة، فنمى ثراؤها وتحول رجالها إلى أمراء وحكام دينيين، استثمروا تلك المزايا والثروات لصالحهم، إلى أن جاءت القرون التاسع الميلادي والعاشر والحادي عشر والثاني عشر، التي امتلأت بالفساد والانحراف ومثلت قمة الأمراض الكنسية؛ التي تمثلت في انخراط الكنيسة في حالة مرضية وانحرافات أخلاقية وتشريعية خرافية، ومنها ظاهرة صكوك الغفران واحتكار المعنى المقدس من الكنيسة وغير ذلك. تأزمت سلطة الكنيسة بعد إهمالها لدورها الديني، حيث أصبح البابوات يعيشون كالأمراء وجمع الثروات، وكسب المزيد من الأموال عن طريق الرشوة والاتجار بصكوك الغفران، وبيع المناصب الدينية؛ ومن ثم بدأت تنتشر آنذاك انتقادات ممارسات رجال الدين، كالوساطة والاهتمام بالماديات على حساب المهام الدينية.

ثالثها يتعلق بإشكال الترجمة وعلم الاجتماع الديني الغربي إذ يعدّ مفهوم الدين من المفاهيم العلمية الملتبسة داخل حقل العلوم الاجتماعية بصفة عامة، وبصفة أخصّ في أدبيات علم الاجتماع الديني ذات المنشأ الغربي تقعيدا وتنظيرا.

يؤكد د. عبد الرحمن الشعيري في مقاله البديع "ما هو الدين؟ وماهي النخبة الدينية؟"؛ أنه بناء على هذه الملاحظة المنهجية "نخلص إلى ضرورة التمييز بين مفهوم الدين في الحقل الدلالي المرتبط بالإسلام قرآنا وسنة، وبين "دين" كترجمة للفظ (Religion) في الفكر الاجتماعي والديني الغربي في مختلف مدارسه الوضعية واللاهوتية. كلمة دين لها حمولتها العقدية والتشريعية القوية في السياق الدلالي الإسلامي، فالدين في السياق الحضاري العربي والإسلامي المشكل للخلفية المعرفية مرادف للإسلام، ويتمايز عن مفهوم "Religion" كما برز في أعمال علم الاجتماع الديني الدارس للمعتقدات المسيحية ومدارسها اللاهوتية وممارستها الكنسية، فقد وظفت معظم نظريات السوسيولوجية الدينية الغربية مفهوم دين، أي "Religion" لغاية وظيفية بُغية التمييز بين مجاله الخاص المرتبط بالعقيدة المسيحية والكنيسة أي "المقدس" وبين ما اصطلح عليه "المجال المدنس" ذي العلاقة بالدولة والسلطة السياسية الزمنية".

من الإشكالات الخطيرة هي تعميم المفردات المتعلقة بدين بعينه على كامل خريطة الأديان في ظل المركزية الغربية التي تدين بالمسيحية اسما ورسما، بغض النظر عن تغلغل التصور العلماني في هذا المقام. إن قراءة في كثير من الكتابات الاستشراقية حملت هذا الخلط المريب، كنت أطالع على واحدة من صفحات التواصل الاجتماعي فوجدت تساؤلا حول كيف نترجم الكلمة التي تستخدم في الكتابات الاستشراقية أو الكتابات المتعلقة بالدين في العالم الإسلامي مثل "الأرثوذكسية الإسلامية"

ومن الإشكالات الخطيرة هي تعميم المفردات المتعلقة بدين بعينه على كامل خريطة الأديان في ظل المركزية الغربية التي تدين بالمسيحية اسما ورسما، بغض النظر عن تغلغل التصور العلماني في هذا المقام. إن قراءة في كثير من الكتابات الاستشراقية حملت هذا الخلط المريب، كنت أطالع على واحدة من صفحات التواصل الاجتماعي فوجدت تساؤلا حول كيف نترجم الكلمة التي تستخدم في الكتابات الاستشراقية أو الكتابات المتعلقة بالدين في العالم الإسلامي مثل "الأرثوذكسية الإسلامية".

ومع مطالعة بعض الكتابات الاستشراقية وجدت تعبيرا آخر من نفس الاستدلال على سبيل الاستهلاك إن صح هذا التعبير "الكنيسة والدولة"، وهو يعبر عن العلاقة بين الدولة والدين في التصور الإسلامي، وغير ذلك كثير مما يرد في هذا المقام، فيعاني الكلام من سوء الفهم وسوء التأويل وبناء المواقف على قاعدة منه، ذلك أن هذا الخلط المستبطن يوصل من كل طريق إلى التدليس المتعمد، حتى لو مارس الكاتب ذلك الأمر في سياقات الأعراف اللغوية والدلالية الحاكمة له في هذا المقام.

كان تعقيبي على ذلك أن مسألة الترجمة هنا هي الفخ المنصوب والشرك المستدرج لمسائل لا تحمد عقباها على سبيل المنهج وعلى طريق بناء الموقف، وهي لا تخلو من قياس فاسد في الألفاظ والمعاني. وكم من هذه الشراك نُصبت، ومن الكلمات ما ظُلمت ومن الألفاظ ما انتُهكت، ومن المعاني ما اغتُصبت ضمن هذه الخدعة المحكمة، وإذا كانت تلك مشكلة الحضارة الغربية ومركزيتها حتى في تصوراتها المسيحية فإن هذا التعميم المستبطن من خلال الاستخدام غير المنضبط هو الذي يأخذ شكل التلبيس المفضي إلى التدليس.

أما مفهوم الإصلاح الديني في التصور الإسلامي وقياسه على مفهوم الإصلاح الديني في خبرة الغرب المسيحية، فهو يعد من القياس الفاسد للأمور الثلاث السابق الإشارة إليها؛ فذلك الإصلاح يتعلق بالاستجابة الإحيائية: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ" (الأنفال: 24)، أو المطلوب التجديدي: "إن الله يبعث على رأس كل مئة من يجدد لهذه الأمة دينها". إنها مشاتل التغيير حينما تعي تلك القياسات الفاسدة وتؤسس لمعاني الإحياء والتجديد الديني ضمن أصولها المرجعية التأسيسية في سياق حركة النهوض الفاعل والراشد، ولذلك حديث مستأنف.

x.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)

خبر عاجل