كتاب عربي 21

"فرّد" تسد: الفردانية والفيدرالية والحبس والتعزيل

"الفردانية الغربية الحداثية انتهت إلى العزلة"- CC0
يعيب الخطاب الحداثي العربي على المجتمعات العربية روح الجماعة وصلة الرحم، معتبرا إياها خصائص رجعية، معيقة للتقدم، وهو يقارنها بمفهوم المواطن والمواطنة الغربية، ويعتبر الفرد والفردانية ركيزة من ركائز الحداثة. والحق أنَّ الفردانية الغربية الحداثية انتهت إلى العزلة، وأن الفرد أمسى يشبه الدودة (ثنائية الجنس). ظهرت قوانين وآداب الفقاعة الشخصية المقدسة، المحددة بقطر قدره متر، وتظهر أرتال الانتظار عزلة قدرها متر في مراكز التسوق والمصارف بين المنتظر والآخر، حرصا على شرف فرديته من التلوث بمس جاره الدنس!

لاحظ عبد الوهاب المسيري أن البطل في الأفلام الأمريكية يطأ صاحبته التي التقاها في الطريق بصمت (يمارس الجنس معها على قولهم كأنه مهنة، وهو لذة خالية من الجنس، فالجنس لغة يعني النسل والتناسل)، خشية من مناجاة شريكته أو مغازلتها أو حتى ذكر اسمه لها، كأن الكلام يؤلمه. الكلام لغة هو الجرح.

الفن السابع هو مجلى الشخصية الغربية، ويمكن القول إنّ البطولة الغربية فردية، وهي خارقة غالبا، ونجد سيرة ذاتية للفردية في سلسلة من الأفلام مثل فيلم "AS G00D AS lT GET'S 1997"، وليس أول الأفلام، وفيلم "2000 Cast Away"، وقد يكون أوحشها فيلم سيمون "S1m0ne" (أو سيم ون) وفيلم هير "Her"، وهما فيلمان ينتهيان بالوحدة المطلقة.

دُمرت القبيلة العربية، أو كادت أن تبيد، وما يصلح للغرب في بعض دولها مثل أمريكا وسويسرا، وهما دولتان محدثتان، لا يصلح للبلاد العربية

وإن أكثر مجرمي الجرائم المسلسلة هم مجرمون مغتربون يعيشون في وحدة شبه مطلقة. وكان بطل فيلم حرارة (Heat) قد أقسم على نفسه تجنب الحب والصداقات، لكنه يقع في الحب، وسرعان ما يتخلى عن حبيبته الحسناء من أجل الانتقام. كتب أحد دعاة الفردية والفردانية العرب (من الأقليات الدينية) معظّما شأن السندويش والتمرد على المائدة العائلية، ومحتفلا به، وكان عبد الوهاب المسيري يعظم شأن المائدة في الوصل والتراحم، فطعام العائلة مركب، وفيه ألفة ومودة ورحمة.

وقد نجد تجليا للفردية الغربية الموحشة في قصة الحمامة للألماني باتريك زوسكيند، يذعر بطل القصة من رؤية حمامة في مدخل بيته كأنها وحش! وقد يكون أحد جذورها القديمة في موت المسيح، الذي قضى وحيدا مفردا على الصليب في الرواية الغربية، من غير نصير ولا معين من حوارييه، بل حتى من أبيه (ربه!)، ولا يذكر الإنجيل له صلة بأمه سوى في عبارتين، ونجدها أيضا في الرهبانية، ونجدها في كتابة الحرف، فقد أوصت الإدارات الغربية العلمية بالعودة إلى الحرف المفرد في الكتابة، وكان يكتب كتابة متصلة مقبوسة من الأندلسيين العرب في الأغلب. الكلمة العربية متصلة الحروف، أما الغربية فمنفصلة، وإنَّ كتابة كل حرف منعزلا عن أخيه في الكلمة أمر شاق، يضطر الكاتب فيها إلى رفع يده عن الحرف كل مرة، لكتابة حرف آخر.

ونجده في الدين، في مبنى الكنيسة الموحش. تتردد عبارة على لسان ضيوف جميع الفضائيات العربية في إنكار الإسلام السياسي، فالدين عندهم علاقة بين العبد وربه، في حين أن الإسلام رابطة شاملة؛ دين ودنيا.

بلغت الفردية ذروتها عند انتشار مرض كورونا، أو نشره كما يشك باحثون غير قلة، ولعل الغرض لم يكن التجارة والربح، وإنما في عزل الفرد عن أهله، فناشر المرض حسود يكره رؤية الإنسان مع أهله.

البطل العربي غير الغربي، يدافع عن الجماعة والقبيلة والقيم من غير طلب لمثوبة، أما البطل الغربي، فمنتقم مخلص للانتقام لا غير، ثأره لا يبرد إلا بالدم، وهو كلي القدرة، ونجده في جل الأفلام الغربية خارقا، مثل فيلم السلطة المطلقة لكلينت ايستود، وأفلام رامبو وشوارزنيجر ونوريس وسواها، في حين أن البطل العربي يذوب في جماعته، ويموت من أجلها، ويخشى من الإفراد والتفريد (وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت)، بل إن طرفة بن العبد الشاعر الجاهلي عدل بين الأمرين، فقال: "فَإن تَبغِنـي فِي حَلْقَةِ القَوْمِ تَلْقِنِـي/ وَإِنْ تَلْتَمِسْنِـي فِي الحَوَانِيْتِ تَصْطَدِ". وغير صحيح أن العربي لا يعرف الفردية، وإن كان يخشى منها، كما ورد في أشعار كثيرة (إلَـى أنْ تَحَامَتْنِي العَشِيْرَةُ كُلُّهَـا/ وأُفْـرِدْتُ إِفْـرَادَ البَعِيْـرِ المُعَبَّـدِ).

يذكر محمد ولد صلاحي الذي سجن في غونتانامو أنه أوفد إلى ألمانيا، وكان في العشرين أو نحوها، وأخذ غرفة في فندق فوجد أنها المرة الأولى في حياته ينفرد فيها بنفسه، فخاف من الوحدة واستوحش، ولجأ إلى زميله!

أما الحرمة الشخصية (والغرب يقيم لها اعتبارات قانونية، فلا يقتحم البيت إلا بإذن من النيابة العامة) فكانت معروفة عند العربي قبل ألفي سنة، والنيابة هي العرف، والعرف أولى من القانون. تذكر السير النبوية أن الذين حاصروا بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما أرادوا قتله ليلة الهجرة، هموا باقتحام البيت، أو أراد بعضهم ذلك، فصاحت بهم امرأة؛ فقال بعضهم: إنها لسُبَّة أن يتحدث العرب أننا تسوّرنا الحيطان على بنات عمنا، وهتكنا ستر حرمتنا!

إسرائيل دولة مفردة، محاطة بالأسوار والحصون، يراد لها الدمج مع الدول العربية بعد مزج الأديان في الخلاط، وهي دولة دينية مقنعة بالعلمانية وملثمة بالديمقراطية في محيط من الدول العربية المتعلمنة قسرا، والمفرّقة قهرا. يدافع الغرب عن إسرائيل الفريدة المفردة بذريعة كونها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط

وقد أُطلق لقب الوحيد على الوليد بن المغيرة، ليس لوحدته وحدة الرهبان، إنما لكسوته الكعبة، وكانت قريش تكسوها سنة، ويكسوها سنة.

ارتفعت أصوات كردية ودرزية وإسرائيلية تطالب إدارة سوريا الجديدة بالفيدرالية، ولم تشبّ الإدارة عن الطوق بعد، وقد رفعت العقوبات، وزعمت أصوات أن الفيدرالية من شروط رفع العقوبات عنها، واستشهد طلاب الفيدرالية بسويسرا البعيدة، الناجية من نيران الحرب العالمية الثانية، والتي أصبحت بنكا لأوروبا، وبدولة خليجية محدثة فيدرالية ناشئة هي الإمارات العربية، وبالعراق الذي أمسي محافظة إيرانية، وهي أمثلة لا تصلح للاقتداء، إيذانا بنقل الفردية من الأفراد إلى الجماعات.

الغرض من عرض هذه الديباجة هو القول: إن الحكومات الغربية شاملة، وغايتها عزل الفرد للتحكم به، وقد بلغ التحكم عبر هاتفه والإحاطة بمشاعره ورغباته وميوله السياسية والمعدية، بالعبث بالخوارزميات الإعلامية، وهو استبداد ناعم، فلا يمر يوم وإلا يخرج ناشط معروف وهو يندب "إمارته" وملكه: حذفوا مائة ألف من متابعيَّ على قناتي في تطبيق كذا! العمل دؤوب في ممالك مارك وماسك الافتراضية على إسقاط أمراء الرأي وتخذيلهم وإفرادهم إفراد البعير المجرب. نذكر أنَّ الجنسية الغربية لا تُمنح للأسرة، وإنما للفرد، فقد يُمنح الأب الجنسية ويُحرم الأبناء، والعكس صحيح.

سيقال من باب المناكفة والمشاكسة: إن في الغرب أحزابا ونقابات، وهي أحزاب يجري العبث بها بالمال والشعارات، والخلاصة: إن القبيلة العربية أكرم من الأحزاب الغربية وأعز وأشرف وأغر، وقد دُمرت القبيلة العربية، أو كادت أن تبيد، وما يصلح للغرب في بعض دولها مثل أمريكا وسويسرا، وهما دولتان محدثتان، لا يصلح للبلاد العربية.

إسرائيل دولة مفردة، محاطة بالأسوار والحصون، يراد لها الدمج مع الدول العربية بعد مزج الأديان في الخلاط، وهي دولة دينية مقنعة بالعلمانية وملثمة بالديمقراطية في محيط من الدول العربية المتعلمنة قسرا، والمفرّقة قهرا.

يدافع الغرب عن إسرائيل الفريدة المفردة بذريعة كونها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وقد اقترحت الديمقراطية الوحيدة في بداية حرب السيوف الحديدية عشائر لقيادة غزة، لكن العشائر رفضت ذلك.

أفرد تسد.

x.com/OmarImaromar