تقارير

تسوية أوضاع مجرمي النظام السابق في سوريا.. ما طبيعتها وتداعياتها؟

أولياء الدم يطالبون بتقديم تلك الشخصيات المجرمة للعدالة لينالوا جزاء ما اقترفوه من جرائم دموية بحق أبناء الشعب السوري.. الأناضول
تفاجأ كثير من السوريين بسياسة الإدارة السورية الجديدة والتي تقضي بتسوية أوضاع بعض مجرمي النظام السابق الذين ولغوا في الدم السوري، واقترفوا مجازر دموية ضد السوريين الأبرياء، وهو ما أثار موجة من السخط العارم في أوساط شعبية سورية واسعة اعتراضا على تلك السياسات.

فقبل أيام انتشرت أنباء عن تواجد فادي صقر في حي التضامن بدمشق، وهو أحد مجرمي النظام السابق، الذين شارك في مجزرة التضامن في دمشق، والتي شاع ذكرها من خلال الفيديو الذي وثق تلك الجريمة، وبعدها بأيام شاعت أنباء عن رجوع خالد الفارس إلى دمشق من دبي عبر المطار، أحد مجرمي النظام السابق الذين اقترفوا جرائم موثقة بحق العشرات من السوريين، وثمة وقائع لمجرمين آخرين تمت تسوية أوضاعهم وفق الأنباء المتداولة.

تسوية أوضاع أولئك المجرمين وعودتهم إلى سوريا، أو ظهورهم من جديد في مدن سورية بشكل علني، قُوبل بسخط شعبي عارم، وخرجت مظاهرات شعبية تعترض على ذلك، وتطالب بملاحقة كل المجرمين الذين اقترفوا جرائم دموية بحق الشعب السوري، وتقديمهم للمحاكمة لينالوا جزاء ما اقترفوه من جرائم، مع مطالبات شعبية واسعة بضرورة تطبيق العدالة الانتقالية وعدم التفريط بالدم السوري.

ووفقا لمراقبين فإن قصة تلك التسويات يكتنفها قدر كبير من الغموض، لتضارب الأنباء بشأنها، ولعدم توافر معلومات موثقة من مصدر رسمي يؤكد تلك الأنباء أو ينفيها، وهو ما أشار إليه الصحفي السوري ماجد عبد النور في تصريحه لـ"عربي21" من عدم وجود معلومات صحيحة وموثقة بهذا الخصوص.

وأضاف "هذا الموضوع شائك جدا، إذ تنتشر أسماء متداولة على أنها موجودة في الشام، لكن إذا بحثت عن الحقيقة، وذهبت لتفتش عن الأمر، تجد أن كثيرا من تلك القصص لا تعدو أن تكون شائعات، مع وجود بعض الأنباء الصحيحة بالطبع، لكن لغياب المعلومات الصحيحة لا يمكن الجزم إن كانت أنباء وجود أولئك المجرمين في سوريا صحيحة أم لا سواء أكانوا في بيوتهم أو يقيمون في فنادق في دمشق أو مدن سورية أخرى؟


                                                       ماجد عبد النور.. صحفي سوري

وتابع "كذلك فإن موضوع إلقاء القبض على المجرمين يكتنفه هو الآخر الغموض، فلا يمكننا القول بأن إدارة الأمن العام لا تلقي القبض على المجرمين، فثمة أخبار مؤكدة وموثقة على قيام الإدارة باعتقال أعداد منهم كل يوم تقريبا، ولا يمكننا كذلك القول بأنهم يلقون القبض على كل المجرمين لوجود مجرمين لم يلقوا القبض عليهم".

وأرجع عبد النور الغموض في هذا الموضوع إلى "عدم وجود شفافية ووضوح، وعدم وجود جهات إعلامية رسمية تتولى بث المعلومات الصحيحة ونشرها لعامة الناس، وغياب تحديث تلك المعلومات يوميا بشأن المجرمين الذين يتم إلقاء القبض عليهم، والإجابة عن تساؤلات الناس بشأن التسويات عن بعض مجرمي النظام السابق التي يجري تداولها بكثرة في أوساط الناس".

من جهته لفت الكاتب السوري ياسر محمد القادري إلى أن "الإدارة السورية الجديدة ترغب من خلال إعلانها عن سياسة العفو العام إشاعة حالة من الطمأنينة، وفي الوقت نفسه إرسال رسائل تحقق من خلالها أكبر قدر ممكن من السلم الأهلي، وضبط عمليات الثأر والانتقام في هذه المرحلة الحساسة".

واستدرك بالقول "ولكن هذه السياسة التي تعتمدها الإدارة الجديدة لا تغلق باب القضاء، فلو أنه تم رفع دعوى بحق أي شخصية من شخصيات النظام مع وجود الأدلة والإثباتات والشهود فإن القضاء سيتعامل مع هذه القضايا تعاملا قضائيا، بمعنى أن وجود العفو العام لا يعطي حصانة للمجرمين إذا ما رُفعت عليهم دعاوى قضائية، وهذه مسألة مهمة تحتاج إلى توعية الحاضنة الشعبية الثورية، وعموم أبناء الشعب السوري".

وتابع في حديثه لـ"عربي21": "فباب القضاء مفتوح لكل من يريد أن يدعي على أي شخصية أجرمت بحق الشعب السوري، أو كان لها دور في الدماء وارتكاب المجازر، وهذه مسؤولية مجتمعية، تتطلب حالة من الوعي العالي، بحيث يبادر كل من يعرف أولئك المجرمين ولديه الأدلة ضدهم بالشكاية عليهم، ورفع قضايا قضائية ضدهم".


                                                       ياسر القادري.. كاتب سوري

وشدد القادري على أن "ضبط الأمن والتعامل مع هذه الحالات يحتاج إلى تعاون بين الحكومة والشعب، فالمطلوب من الشعب أن لا يلقي كل الحمل واللوم على الحكومة، بل يبادر إلى تقديم الشكاوى والدعاوى ضد أولئك المجرمين، وعلى الحكومة أن تراعي أولوية وأهمية المبادرة بإطلاق مسار العدالة الانتقالية، الذي يساهم في تحرير منظومة القضاء بصورة حيوية لاستيعاب كل القضايا التي يمكن أن ترفع من خلال الإجراءات المتبعة".

بدوره قال الكاتب والمحلل السياسي السوري، أحمد قاسم "من البديهي جدا أن ينتفض الشعب حينما يسمع عن عمليات تسوية لشخصيات قذرة قاتلة مجرمة، فشخصية مثل فادي صقر أحد المسؤولين عن مجزرة التضامن بدمشق، وكان مسؤولا عن الدفاع الوطني في مناطق عديدة، ومثل خالد الفارس وأسماء أخرى، فمن البديهي أن يثور الناس حينما يسمع عن تسويات لمثل هذه الشخصيات لتورطها في جرائم دموية، ومجازر وموثقة".

وأضاف "فأولياء الدم لا يمكن أن يسكتوا على أمر كهذا، فهم يطالبون بتقديم تلك الشخصيات المجرمة للعدالة لينالوا جزاء ما اقترفوه من جرائم دموية بحق أبناء الشعب السوري، فولي الدم هو المخول ـ وحده ـ بإسقاط حقه أو الأخذ بالقصاص من القتلة المجرمين، ولحسن الحظ فإن الشعب السوري ما زال لغاية الساعة يعمل تحت مظلة الدولة، ويطالبها بالقيام بذلك، ولم تسجل حالات انتقام ثأرية في هذا المجال ولله الحمد".

وتساءل قاسم في حواره مع "عربي21" : هل من الممكن أن تكون الغاية من هذه السياسة إعطاء هؤلاء القتلة الأمان حتى يعودوا، ويعود كل من شاركهم في تلك الجرائم ليصار بعد ذلك إلى تقديمهم للمحاكمة؟ ليجيب "من الوارد أن يكون الأمر كذلك إذا ما أحسنا الظن بتلك السياسة".


                                          أحمد قاسم.. كاتب ومحلل سياسي سوري

وعن مدى انعكاس سياسة تسوية أوضاع بعض مجرمي النظام السابق على ثقة الشعب بالقيادة الجديدة، أكدّ قاسم أن "ثقة عامة الشعب السوري بالقيادة مطلقة إلى الآن، لكن إذا استمر الأمر على ما هو عليه قد نرى تغيرا كبيرا، لا سيما فيما يتعلق بتسوية أوضاع القتلة والمجرمين، الذين ثبت تورطهم وولوغهم في الدم السوري".

ودعا الإدارة السورية الجديدة إلى "الاهتمام بهذه القضية، والتأكيد على أن العفو لا يمكن أن يشمل القتلة، بل يجب أن يصار إلى تطبيق العدالة الانتقالية، وإطلاق يد المحاكم لإجراء محاكمات عادلة لكل الذين ثبت تورطهم في القتل واقتراف المجازر الدموية، وارتكاب جرائم اغتصاب النساء، وتدمير البيوت، وإلا فإن عامة السوريين لن يسكتوا عن تلك السياسة ولن يرضوا بها".

من جانبه رأى الكاتب والباحث الدكتور عثمان بخاش أن "واقع الأمر يظهر أن تسلم هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع للسلطة في دمشق تم وفق تفاهمات مع تركيا، وبمتابعة المواقف الصادرة عن الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني، نجد أنها تعكس سياسة (صفر مشاكل)، وتلهفا واضحا للتطبيع مع الأنظمة العربية والدولية".

وأضاف "هذا يفسر افتخار الشرع والشيباني بأن دخول دمشق تم دون بحور من الدم (وعمليات القتل الانتقامية من رجالات النظام السابق)، وقد يفسر هذا سلوك الإدارة الجديدة التي تحاول السير بين النقط مراعية الضغوط الخارجية، والغريب أن هذا التسامح يوازيه التشدد مع معتقلي الرأي في سجون إدلب الذين كانوا يطالبون بفتح الجبهات لإسقاط النظام البائد، وهذه مفارقة لافتة".

وردا على سؤال "عربي21" بشأن ما أثار اعتراضات السوريين وسخطهم على سياسة تسوية أوضاع بعض مجرمي النظام السابق، لفت بخاش إلى أنه "من الطبيعي جدا أن يطالب السوريون بتحقيق العدالة الانتقالية بحق من قتل ذويهم وأهاليهم، بعد ثورة دامية استمرت 14 عاما عانى فيها الثوار وعامة الشعب من الإجراءات الهمجية للنظام البائد، والتي قام بارتكابها حشد من جلاوزة النظام السابق".


                                             د. عثمان بخاش.. كاتب وباحث سياسي

ورأى أن "التلكؤ بتحقيق العدالة، مع مضي الوقت، قد يؤدي إلى تبخر ثقة الناس بالحكم الجديد، لكن لغاية اللحظة الراهنة فإن الكثيرين ما زالوا يعيشون نشوة الفرح بسقوط بشام الكيماوي ونهاية عهده، لكن مع التراخي في الاقتصاص من المجرمين قد يؤدي إلى ضيق الناس من هذا التقصير غير المقبول عندهم، بل ويثير شكوكا لديهم في حقيقة زوال النظام المجرم".

وختم حديثه بالتأكيد على أن "القاصي والداني يعلم أن بشار لم يكن يعذب ضحاياه في صيدنايا وتدمر وغيرها من السجون، بل كان يقوم بهذه الجرائم حشد من المجرمين، أما وقد فر بشار من العدالة، فما بال السلطة الجديدة تتساهل مع هؤلاء؟ فهذا أمر لا يسع الناس فهمه ولا قبوله، والتأخر في إنجاز القصاص العادل قد يفجر أزمة ثقة كبيرة في السلطة الجديدة"، على حد قوله.