في تحرك جديد يعكس
توجه الحكومة
المصرية نحو الاعتماد المتزايد على التمويل المحلي، رفعت وزارة المالية
مستهدفها للاقتراض الداخلي خلال شهر تشرين الأول / أكتوبر الجاري إلى نحو 845 مليار
جنيه (قرابة 17.8 مليار دولار)، مقابل 833 مليار جنيه في أيلول / سبتمبر الماضي، في
خطوة تهدف إلى توسيع قاعدة الإقراض المحلي وتعزيز مبيعات أدوات الدين الحكومية لتمويل
العجز المتنامي في الموازنة العامة.
وتشير تقديرات رسمية
إلى أن هذا الرفع يأتي في ظل زيادة الطلب من القطاع المصرفي المحلي على أذون وسندات
الخزانة مقارنة بتراجع شهية المستثمرين الأجانب، مستفيدًا من التراجع المؤقت للضغوط
على سوق الصرف بعد استقرار سعر الدولار أمام الجنيه خلال الأسابيع الأخيرة، كما انعكس
تراجع العائدات داخل النظام المصرفي على توجه البنوك نحو الاستثمار في أدوات الدين
الحكومية ذات العائد المرتفع.
ويبدو أن الحكومة تستهدف
من هذا التوجه تعميق سوق الدين المحلي باعتباره أداة رئيسية لتمويل احتياجاتها التمويلية،
في وقت تسعى فيه لتقليص الاعتماد على الاقتراض الخارجي أو فشلت في الحصول على قروض
خارجية والحد من تقلبات التمويل الدولاري.
اظهار أخبار متعلقة
وتشير بيانات البنك
المركزي إلى أن أذون الخزانة طويلة الأجل تشكل الحصة الأكبر من الإصدارات الحالية،
في إطار استراتيجية تستهدف إطالة متوسط عمر الدين العام وخفض كلفة خدمته تدريجيًا.
كما تعمل وزارة المالية
على إعادة فتح إصدارات سندات قائمة لآجال عامين وثلاثة وخمسة أعوام، بدلاً من طرح أدوات
جديدة، تمهيدًا للكشف عن استراتيجية الدين العام الجديدة في كانون الأول / ديسمبر المقبل،
والتي تستهدف خفض نسبة الدين إلى أقل من 75 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال
ثلاث سنوات، مقارنة بـ85 بالمئة في العام المالي الماضي.
أذونات الخزانة والدين
العام
سجل الدين العام المحلي
في مصر ارتفاعاً ملحوظاً خلال الربع الثالث من عام 2024، ليصل إلى نحو 13.3 تريليون
جنيه بنهاية أيلول / سبتمبر، مقابل 12.5 تريليون جنيه في نهاية حزيران / يونيو من العام
نفسه، بزيادة قدرها نحو 6.5 بالمئة، وفق بيانات وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية.
ويأتي هذا الارتفاع
في ظل توسع الحكومة في
الاقتراض المحلي عبر أذون وسندات الخزانة لتغطية فجوة التمويل
وسداد الالتزامات الداخلية، مع تراجع الاعتماد على الاقتراض الخارجي.
تشكل أذون وسندات الخزانة
المحلية الجزء الأكبر من
الدين الداخلي لمصر، حيث تشير بيانات وزارة المالية إلى أن
هذه الأدوات تمثل نحو 85 بالمئة إلى 87 بالمئة من إجمالي الدين المحلي، بفضل الاعتماد
المكثف على الإصدارات قصيرة وطويلة الأجل لتغطية احتياجات التمويل الحكومي.
اظهار أخبار متعلقة
أما الدين الخارجي
لمصر، فقد بلغ نحو 155 مليار دولار بنهاية إيلول / سبتمبر 2024، بحسب أحدث بيانات صادرة عن البنك المركزي المصري، ما يعادل نحو
38.8 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ورغم بقاء مستوى الدين الخارجي ضمن الحدود
التي تصفها المؤسسات الدولية بـ"القابلة للإدارة"، فإن فاتورة خدمته "من
أقساط وفوائد" تمثل عبئاً متزايداً على الموازنة العامة.
وتسعى الحكومة المصرية
في المقابل إلى تقليص الاقتراض من الخارج وتعزيز الاعتماد على التمويل المحلي، إذ تغطي
الأدوات المحلية حالياً أكثر من 96 بالمئة من احتياجات التمويل حتى منتصف 2025. وتأتي
هذه التحركات في إطار التوافق مع شروط صندوق النقد الدولي، الذي يشدد على ضبط الدين
وخفض كلفته ضمن برنامج الإصلاح المالي الجاري.
فشل السياسة الاقتصادية
علّق الخبير الاقتصادي
عبد الحافظ الصاوي على قرار وزارة المالية رفع مستهدف الاقتراض المحلي لشهر تشرين
الأول أكتوبر إلى 845 مليار جنيه، واصفاً هذه الخطوة بأنها "تأكيد على اعتماد
الحكومة الكبير على أدوات الدين المحلي لتغطية احتياجات الموازنة"، مشيراً إلى
أن هذا الاتجاه يظل وسيلة رئيسية لموازنة الإنفاق الحكومي في ظل محدودية الموارد الذاتية.
وقال الصاوي في تصريحات
خاصة لـ"
عربي21" : " النتيجة
النهائية هي فشل السياسة الاقتصادية المصرية في الاستغناء عن آلية الدين، وبخاصة فيما
يتعلق بجانب السياسة المالية، فالاعتماد على الديون سواء كانت محلية او خارجية أصبح
عبئاً حقيقياً على الموازنة العامة، وفوائد هذه القروض الآن تمثل نسبة ضخمة من الإنفاق
العام، وهو ما يحدّ من قدرة الدولة على تخصيص موارد كافية للصحة والبنية التحتية والخدمات
الأساسية للمواطنين، خصوصاً بعد ارتفاع معدلات الفقر خلال السنوات الماضية".
اظهار أخبار متعلقة
وأضاف الخبير أن زيادة
مستهدف الاقتراض المحلي تعكس أيضاً ضغوطاً على القطاع المصرفي، إذ إن إصدارات الحكومة
الكبيرة من أذون وسندات الخزانة "تزاحم القطاع وتقلل من قدرة البنوك على تمويل
المشاريع الأخرى، سواء للشركات أو الأفراد".
وأوضح أن الخيار المتاح
للحكومة بين الاقتراض المحلي والخارجي يخضع لمحددات سعر الفائدة العالمية والمحلية،
مؤكداً أن "كل دين، سواء كان داخلياً أو خارجياً، يفرض أعباءً على الموازنة، والمواطن
في النهاية هو من يتحمل نتائج هذه السياسات من خلال ارتفاع تكاليف المعيشة أو ضعف الخدمات
العامة".
واختتم الصاوي تحليله
بالإشارة إلى أن رفع المستهدف يشير إلى ضرورة إعادة النظر في إدارة الدين العام، مع
التركيز على تحقيق توازن بين تمويل الإنفاق وتنمية الاقتصاد دون زيادة الأعباء على
الموازنة والمواطن، لافتاً إلى أن الاستفادة من الطلب المتزايد للقطاع المصرفي على
أدوات الدين تتطلب استراتيجية دقيقة لتفادي تضخيم الدين المحلي بشكل يعيق النمو الاقتصادي.
تكتيك حكومي يثقل القطاع
الخاص
ومن جانبه علّق الصحفي
والمختص بشأن الاقتصادي صهيب فرج على قرار وزارة المالية رفع مستهدف الاقتراض المحلي،
موضحًا أن هذه الخطوة "لا تعني بالضرورة فشل الحكومة في تأمين التمويل الخارجي"،
مشيراً إلى أن مؤشرات التصنيف الدولية مثل وكالة S&P، التي رفعت تصنيف مصر إلى B،
ووكالة فيتش التي أبقت على نظرتها مستقرة، "تعكس استقرارا نسبيا في الجدارة الائتمانية
رغم استمرار ارتفاع كلفة التمويل".
وأضاف فرج في
تصريح خاص لـ "
عربي21" أن زيادة الاعتماد على أدوات الدين المحلية تبدو بمثابة
تكتيك حكومي لإدارة السيولة وتوقيت الاقتراض في ظل بيئة عالمية متقلبة، مشيراً إلى
أن المستثمرين العالميين يتجهون الآن إلى أدوات التحوط وأصول الملاذ الآمن مثل الذهب،
ما يجعل جذب التمويل الخارجي أكثر صعوبة ومكلفًا.
من ناحية أخرى، أشار
إلى وجود "شهيّة داخلية كبيرة للاستثمار في أدوات الدين المحلية"، مدفوعة
بتحسن المؤشرات الاقتصادية وسعر صرف الدولار مقابل الجنيه، بالإضافة إلى العائدات المرتفعة
لهذه الأدوات.
لكن فرج حذر من المخاطر
المحتملة لهذه السياسة على المدى المتوسط والبعيد، موضحًا أن تركيز السيولة داخل أدوات
الدين الحكومية يؤدي إلى مزاحمة القطاع الخاص وتقليص فرص التمويل المتاحة للشركات،
حيث تشير بيانات البنك المركزي إلى أن أكثر من 65 بالمئة من أصول البنوك مستثمرة في
أدوات خزانة، ما يضغط على الاستثمار والإنتاج ويحد من الحيز المالي المخصص للإنفاق
الخدمي والتنمية.
اظهار أخبار متعلقة
وأكد أن هذه الاستراتيجية
تشبه "حلًا قصير المدى لتغطية العجز"، لكنها لا تولد نموًا إضافيًا في الاقتصاد
أو دخلا حقيقيًا، مشيرًا إلى أن ضعف التمويل للقطاع الخاص يؤدي إلى توقف المشاريع الجديدة،
وعدم خلق وظائف إضافية، وبالتالي استمرار العجز الهيكلي على المدى الطويل.
وأضاف: "الاعتماد
على الدين المحلي يعالج مشكلة السيولة مؤقتًا، لكنه لا يضيف أموالًا جديدة للاقتصاد،
وبالتالي الحكومة تدور في دائرة مفرغة ما لم يتم تعزيز الإنتاج والنمو".
وفي ختام تصريحاته،
شدد فرج على أن استمرار الحكومة في سياسة الاقتراض الداخلي يجب أن يقترن باستراتيجيات
واضحة لدعم القطاع الخاص وتعزيز الإنتاج المحلي، لضمان أن تكون أدوات الدين وسيلة لتنمية
الاقتصاد، لا مجرد أداة لتغطية العجز المالي قصير الأجل.