في لحظة إقليمية
فارقة تتقاطع فيها المسارات وتتبدل فيها التحالفات، يعود الملف
اللبناني-السوري
إلى الواجهة بوصفه واحدا من أعقد ملفات الجوار الجغرافي والسياسي في المشرق العربي.
لا يتعلق الأمر هذه المرة فقط بزيارات رسمية مؤجلة أو تنسيق أمني مطلوب، بل بمسار
آخذ في التشكل تحت ضغط تحولات داخل
سوريا، وانهيارات متتالية في لبنان، وعودة أمريكية
نشطة إلى الإقليم عبر وسطاء، وأجندة جديدة يعاد فيها رسم ملامح "الشرق الأوسط
القابل للحكم".
لبنان يجد نفسه
أمام تقاطع غير مريح: داخليا، يترنح تحت وطأة الانهيار المالي والسياسي، وخارجيا،
يُطلب منه تقديم أجوبة حاسمة على ملفات كبرى تتعلق بالسيادة، والسلاح، والحدود،
والسياسة الخارجية. أما سوريا، فبعد سقوط النظام السابق وصعود إدارة جديدة برئاسة
أحمد الشرع، تسعى لتثبيت شرعيتها عبر استعادة السيطرة على الملفات العالقة مع دول
الجوار، وفي مقدمتها لبنان، ولكن بشروط صارمة.
ثمة مساعٍ عربية ودولية جادة لتقريب وجهات النظر. قطر والسعودية تبذلان جهودا لتليين العلاقة بين الجانبين، فيما الولايات المتحدة، عبر مبعوثها الخاص توم باراك، تحاول الاستثمار في "التحول السوري" لتقديم نموذج يُحتذى به للبنان، لا سيما في ملف ضبط السلاح والخروج من المحاور
في هذا السياق،
لم تعد دمشق تكتفي بالإشارات الشكلية للعلاقات مع بيروت، بل وضعت على الطاولة حزمة
مطالب تعتبرها أساسية: أولها تسوية ملف آلاف الموقوفين السوريين في السجون
اللبنانية، وثانيها تسليم مطلوبين أمنيين لسوريا، وثالثها ضبط الجماعات المسلحة
التي تنشط من الأراضي اللبنانية وتؤثر على الداخل السوري. لكن أخطر ما في اللائحة
السورية هو البند غير المعلن: "إعادة تعريف دور
حزب الله داخل لبنان، وحدود
حركته ونفوذه على المسرح السوري".
السلطات
اللبنانية، من جهتها، تبدو مترددة، فالإجابة على المطالب السورية لا تتعلق فقط
بتسوية قانونية أو تقنية، بل تمس مباشرة صلب التوازنات السياسية الحساسة، وتفتح
ملفات شائكة من بينها ملف السلاح، وخصوصا سلاح "حزب الله"، الذي أصبح
اليوم موضع مساءلة سورية، بعدما كان لعقود عنوانا للتنسيق بين الجانبين.
ما يزيد من حدة
المأزق أن الزيارة المنتظرة لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بيروت تأجلت
أكثر من مرة، بسبب غياب مناخات الثقة بين الطرفين. دمشق لا تريد زيارة بروتوكولية،
بل لقاء يتوج باتفاقات حقيقية تشمل ملف الموقوفين، وتفتح الباب أمام تعاون أمني
جديد، فيما بيروت تعتبر أن إتمام هذه الملفات يتطلب آليات قانونية معقدة، لا يمكن
إنجازها بقرار سياسي سريع. وبين هذا وذاك، تتراكم الشكوك وتتعاظم الفجوات.
في العمق، يدور
صراع غير معلن حول من يمثل القرار السيادي في لبنان. فدمشق تعتبر أن هناك قنوات
تنسيق رسمية تمر عبر اللجنة العسكرية الأمنية المشتركة، وأن على لبنان أن يلتزم
بهذه الأطر، بينما تميل بيروت إلى تحييد الملف السوري عن التأزيم الداخلي، خصوصا
أن الملف لا يلقى توافقا بين القوى اللبنانية. رئيس الجمهورية جوزيف عون لم يزر
دمشق حتى الآن رغم زياراته إلى كل الدول المجاورة، ما اعتبره السوريون إشارة
سلبية، تضاف إلى حملة إعلامية وسياسية لا تزال تستهدفهم في بعض الأوساط اللبنانية.
في المقابل، ثمة
مساعٍ عربية ودولية جادة لتقريب وجهات النظر. قطر والسعودية تبذلان جهودا لتليين
العلاقة بين الجانبين، فيما الولايات المتحدة، عبر مبعوثها الخاص توم باراك، تحاول
الاستثمار في "التحول السوري" لتقديم نموذج يُحتذى به للبنان، لا سيما
في ملف ضبط السلاح والخروج من المحاور.
وأخطر ما في
المشهد هو ما يتعلق بسلاح "حزب الله"، فبينما تتكاثر الضغوط الدولية
عليه في الجنوب، وتزداد التحركات الإسرائيلية، تتنامى في المقابل هواجس دمشق من
بنية الحزب العسكرية، وخصوصا في منطقة البقاع، حيث يُعتقد أن جزءا كبيرا من
الترسانة الصاروخية الدقيقة موجود فيها. هذا التوجس السوري لا يأتي فقط من حجم
السلاح، بل من احتمال استخدامه مستقبلا كأداة ضغط على الداخل السوري، خصوصا في ظل
وجود مجموعات لبنانية وسورية محسوبة على النظام السابق تنشط من لبنان وبدعم من
الحزب.
التحول في الموقف
السوري ليس معزولا عن المتغيرات في المشهد الدولي. فواشنطن أصبحت أكثر انخراطا في
الملف اللبناني، وتطرح بوضوح مسارا تفاوضيا عنوانه "تفكيك سلاح حزب الله ضمن
توافق لبناني"، مع استعداد لإعطاء الحزب مكاسب سياسية مقابل تخليه التدريجي
عن سلاحه. باراك صرّح بوضوح أن "أي عملية لنزع السلاح يجب أن تبدأ من مجلس
الوزراء وبموافقة حزب الله السياسي".
ورغم التماسك
الظاهري، يدرك "حزب الله" أنه أمام مرحلة جديدة لن يكون فيها التسلّح
خارج الدولة قابلا للاستمرار طويلا، خصوصا في ظل الحصار المالي، وتراجع الدعم
الإيراني بعد الحرب الأخيرة، والتبدلات الإقليمية التي تهدد بتحجيمه من الداخل
والخارج. ولذلك بدأت بعض دوائر النقاش داخل الحزب وخارجه تتداول صيغا انتقالية: من
بينها إعادة جزء من ترسانة الصواريخ الدقيقة إلى إيران، أو تصديرها إلى ساحات
بديلة، أو حتى بيع بعضها لتمويل إعادة إعمار مناطقه الشعبية المتضررة.
لكن العقبة
الأكبر تكمن في مستقبل المقاتلين، فالحزب يضم عشرات الآلاف من العناصر المدربة،
ومعظمهم غير منخرط في وظائف رسمية. ويُطرح في هذا السياق سيناريو شبيه بما جرى بعد
الحرب الأهلية اللبنانية: دمج جزء من المقاتلين في الأجهزة الأمنية أو الجيش
اللبناني، مع ضمانات بعدم ملاحقتهم قضائيا، مقابل تفكيك تدريجي للجناح العسكري.
هذه المقايضة، إن حصلت، ستعني تحوّلا جذريا في معادلة القوة داخل لبنان، وستفرض واقعا جديدا لا على الحزب وحده، بل على مجمل المنظومة اللبنانية، وستعيد فتح النقاش حول الطائف، والمثالثة، والمركزية، وصلاحيات الدولة ومؤسساتها
وفي عمق هذا
النقاش يبرز طرح أكثر جرأة: تسوية كبرى بعنوان "السلاح مقابل النفوذ
السياسي". وهذا الطرح، وإن بدا صعبا، لكنه يُتداول في غرف القرار في أكثر من
عاصمة. فمقابل تخلي الحزب عن سلاحه، يجري الحديث عن تعديلات في النظام السياسي،
تشمل توسيع صلاحيات الطائفة الشيعية، وتثبيت موقعها في مراكز القرار. من بين
الطروحات: منح منصب نائب رئيس الجمهورية أو نائب رئيس الحكومة للشيعة، أو تدوير
الرئاسات الثلاث، أو تثبيت وزارة المال ضمن الحصة الشيعية، إلى جانب تعديل قانون
الانتخابات بما يضمن تمثيلهم السياسي دون الحاجة إلى سلاح رديف.
هذه المقايضة، إن
حصلت، ستعني تحوّلا جذريا في معادلة القوة داخل لبنان، وستفرض واقعا جديدا لا على
الحزب وحده، بل على مجمل المنظومة اللبنانية، وستعيد فتح النقاش حول الطائف،
والمثالثة، والمركزية، وصلاحيات الدولة ومؤسساتها.
الواقع أن لحظة
التسوية لا تزال ممكنة، لكنها ضيقة ومحمّلة بالمخاطر. فلبنان محاصر بجبهات
متقابلة: الضغط الإسرائيلي جنوبا، الخناق الأمريكي غربا، والخوف السوري شرقا. وفي
هذا الوسط الهش، يُطلب منه أن يقرر: هل يريد أن يلحق بسوريا في مشروع إعادة
التموضع الإقليمي؟ أم يصرّ على البقاء في مأزق اللاقرار؟ وهل يملك الإرادة
السياسية والمؤسسية لتفكيك السلاح من دون أن ينفجر الداخل؟ أم أن التسويات الكبرى
ستفرض عليه من الخارج كما حدث في مراحل سابقة؟
الجواب لم يعد في
يد بيروت وحدها، ولا في يد الحزب، ولا حتى في يد دمشق، بل أصبح مرهونا بموازين
دولية وإقليمية تعاد صياغتها بسرعة، من طهران إلى واشنطن، ومن تل أبيب إلى الدوحة.
والمؤكد أن ما كان مقبولا قبل سنوات، لم يعد مقبولا اليوم، وأن "الاستثناء
اللبناني" الذي سمح لعقود بازدواجية الدولة والدويلة يقترب من نهايته.