في 9 أيار/ مايو 2025،
أعلن السفير الأمريكي لدى
إسرائيل مايك هوكابي، عن خطة جديدة لتقديم
مساعدات
إنسانية إلى
غزة، تتضمن إنشاء مراكز توزيع مؤمنة يديرها مقاولون أمنيون أمريكيون، بالتنسيق
مع الحكومة الإسرائيلية ومنظمة غير حكومية سويسرية تُدعى "مؤسسة غزة
الإنسانية" (GHF). تم تصميم هذه الخطة لتجاوز حركة حماس،
التي تُتهم بتحويل المساعدات لصالحها، وفقا للولايات المتحدة وإسرائيل.
رفض المنظمات
الدولية للخطة:
واجهت الخطة الأمريكية-
الإسرائيلية المقترحة لتوزيع المساعدات في قطاع غزة رفضا واسعا من عدد من المنظمات
الدولية والإنسانية، وفي مقدمتها منظمة الأمم المتحدة ووكالة اليونيسف، إلى جانب
منظمات غير حكومية مثل أطباء بلا حدود واللجنة الدولية للصليب الأحمر. وقد جاء هذا
الرفض انطلاقا من ملاحظات جوهرية تتعلق بطبيعة الخطة وتناقضها مع المبادئ الأساسية
التي يقوم عليها العمل الإنساني في زمن النزاعات المسلحة.
جاء هذا الرفض انطلاقا من ملاحظات جوهرية تتعلق بطبيعة الخطة وتناقضها مع المبادئ الأساسية التي يقوم عليها العمل الإنساني في زمن النزاعات المسلحة
وترى هذه
المنظمات أن الخطة المطروحة تعاني من انعدام الحياد، حيث يجري تنفيذها بالتنسيق
المباشر مع طرف أساسي في النزاع، هو إسرائيل، دون إشراك مؤسسات دولية محايدة أو
السلطة الفلسطينية. هذا التوجّه يتعارض مع مبدأ الحياد والاستقلال الإنساني،
ويُقوّض ثقة المتلقين بالجهات المانحة ويحوّل المساعدات إلى أداة سياسية بدل أن
تكون تدخلا إنسانيا صرفا.
فضلا عن ذلك،
أثارت الخطة قلقا بالغا من حيث المخاطر الأمنية، إذ تشترط انتقال المدنيين، بمن
فيهم الأطفال والنساء، إلى "مراكز توزيع مؤمنة" ضمن مناطق تُعدّ في كثير
من الأحيان غير آمنة أو قريبة من نقاط الاشتباك. وقد نبّهت منظمة اليونيسف إلى أن
هذه الآلية قد تعرّض الأطفال إلى أضرار جسدية ونفسية جسيمة، وتحرمهم من الوصول
الآمن للمساعدة في مناطق سكناهم.
كما شدّدت بعض
المنظمات على أن هذه الخطة تتجاوز النظام الإنساني العالمي الذي يُنسّق عبر مكتب
الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)،
وتُقصي الخبرات المتراكمة في تحديد الاحتياجات ووضع أولويات التدخل. فبدلا من
اعتماد آليات دولية موضوعية، تعتمد الخطة على ترتيبات أمنية وسياسية لا تضع
احتياجات السكان المدنيين في صلب أولوياتها.
ومن زاوية
قانونية وأخلاقية، اعتبرت تلك المنظمات أن الخطة تحمل طابعا ابتزازيا، خاصة في ظل
التهديدات العلنية التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب بوقف التمويل عن
الدول أو الجهات التي ترفض الانخراط في هذا المسار. مثل هذه التهديدات تمثل خرقا
لمبادئ التعاون الدولي، وتتناقض مع ما نصت عليه اتفاقيات جنيف وقرارات الجمعية
العامة للأمم المتحدة بخصوص استقلال العمل الإنساني وعدم إخضاعه للمساومات
السياسية.
إن هذا الرفض من
جانب المنظمات الدولية لا يُعد موقفا معارضا وحسب، بل هو دفاع صريح عن مبدأ حيادية
المساعدات ورفض تحويلها إلى أداة للضغط أو الإخضاع. ومن هنا، يصبح واضحا أن الخطة
الأمريكية- الإسرائيلية، بصيغتها الحالية، لا تلبي المعايير القانونية والإنسانية،
بل تشكل سابقة خطيرة في تسييس العمل الإنساني وشرعنة أدوات الاحتلال تحت غطاء
الإغاثة.
التهديد الأمريكي:
تسييس المساعدات والضغط على المنظمات الدولية
في تصعيد خطير
يكشف عن توجهٍ متعمد لتسييس المساعدات الإنسانية، أطلقت إدارة ترامب سلسلة من
التهديدات المباشرة ضد دول ومنظمات دولية في سياق فرض الخطة الأمريكي- الإسرائيلية
الجديدة للمساعدات في غزة. وقد جاء هذا التهديد في مرحلتين أساسيتين: الأولى في
شباط/ فبراير 2025، حين هدد ترامب بقطع المساعدات عن الأردن ومصر في حال رفضتا
استقبال لاجئين فلسطينيين من غزة، في خطوة تتعارض مع مبدأ عدم الإعادة القسرية
وتشكل انتهاكا صارخا لحقوق اللاجئين.
أما المرحلة
الثانية والأكثر حدّة، فقد تمثلت في أيار/ مايو 2025، حين أبلغ مبعوثون أمريكيون
رفيعو المستوى، من بينهم ستيف ويتكوف وآرييه لايتستون، ممثلين عن الأمم المتحدة
بأن المنظمات التي ترفض دعم الخطة الأمريكية لتوزيع المساعدات ستواجه عقوبات
مباشرة، منها تقليص التمويل، ورفع الحصانات، وتجميد التعاون. وتشمل هذه التهديدات
تحديدا برنامج الأغذية العالم (WFP) ووكالة الأونروا، اللذين حذّرا بدورهما من
خطورة الالتفاف على آليات التنسيق الدولي، وتحويل المساعدات إلى أدوات ضغط تخالف
جوهر القانون الإنساني الدولي.
التوجه الأمريكي جاء في وقت كانت فيه المؤسسات الأممية والمنظمات الإنسانية تحذّر من كارثة متفاقمة في غزة، ما يجعل من هذه التهديدات محاولة مكشوفة لإخضاع العمل الإنساني للأجندات السياسية والأمنية، وهو ما يشكل، من منظور قانوني، خرقا لمبدأ الحياد والاستقلال
واللافت أن هذا
التوجه الأمريكي جاء في وقت كانت فيه المؤسسات الأممية والمنظمات الإنسانية تحذّر
من كارثة متفاقمة في غزة، ما يجعل من هذه التهديدات محاولة مكشوفة لإخضاع العمل
الإنساني للأجندات السياسية والأمنية، وهو ما يشكل، من منظور قانوني، خرقا لمبدأ
الحياد والاستقلال الذي يُعدّ حجر الأساس في القانون الدولي الإنساني، ويهدد
بتقويض الثقة في المنظومة الأممية ككل.
من
هنا، لا يُمكن النظر إلى ما جرى كخلاف تقني، بل كاختبار لقدرة المجتمع الدولي على
حماية استقلال العمل الإنساني من التوظيف السياسي، حيث شكّل الرفض الدولي للخطة
موقفا قانونيا وأخلاقيا يرفض تحويل المساعدات إلى أداة للابتزاز.
الدلالات القانونية والحقوقية: من قوننة الحصار إلى مأسسة الموت
إن الخطة الأمريكية- الإسرائيلية
لتوزيع المساعدات في غزة لا تُعد فقط إخلالا بمبادئ القانون الدولي الإنساني، بل
تمثل مرحلة جديدة من "قوننة الحصار"
و"مأسسة الموت"، في لحظة يُفترض فيها أن يكون
الأصل هو إنهاء الانتهاك، لا التحايل عليه.
لقد أظهرت هذه الخطة
محاولة واضحة لتسييس المساعدات الإنسانية، إذ جُعلت مشروطة بترتيبات أمنية تتجاهل
القانون الدولي وتُدار من قبل أطراف هي نفسها مسؤولة عن الحصار والقتل والتجويع.
هذا التوجه لا يتعارض فقط مع مبدأي الحياد والاستقلالية، بل يُشكّل إخلالا بمنظومة
الحماية برمّتها، ويحوّل المساعدات من حق إنساني إلى أداة تفاوض سياسي. فبدلا من
مساءلة الجاني، يجري تطبيع الجريمة.
التهديدات التي
أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، سواء تجاه الدول العربية أو تجاه منظمات
الأمم المتحدة، تُعدّ من وجهة قانونية انتهاكا سافرا لواجب التعاون الدولي،
ولمبادئ الميثاق الأممي، بل إنها تقرأ كابتزاز مباشر لإخضاع العمل الإنساني لإرادة
القوة، لا لضرورات الحاجة.
وما هو أخطر من ذلك،
أن الخطة جاءت رغم صدور أمر احترازي عن محكمة العدل الدولية في 26 يناير/ كانون
الثاني 2024، طالب إسرائيل بشكل صريح باتخاذ تدابير فورية لإدخال المساعدات
الإنسانية إلى غزة. لم تُنفّذ تلك الأوامر، ولم تتحرك الآليات الدولية لفرضها، بل
على العكس، بدأ التكيف مع الحصار، ثم إعادة هيكلته في صورة "خطة إنقاذ".
تسعى هذه الخطة عمليا
إلى إدارة الموت لا منعه، وتطبيع التعايش مع الحصار بدل وقفه. والأسئلة الكبرى
التي تُطرح هنا: هل أصبح
الجوع قانونيا إن وُزّع عبر ممرات مؤمنة؟ وهل القتل يصبح
شرعيا إن سبقه تصريح تنسيق؟ هل نُقنن الموت البطيء لأن إسرائيل ترفض الامتثال
ونخشى مواجهتها؟
هل تنجح الخطة الأمريكية-
الإسرائيلية لتوزيع المساعدات في غزة؟
يُطرح هذا السؤال
في لحظة تُعد من أكثر اللحظات مأساوية في التاريخ الإنساني المعاصر، لحظة سُحقت
فيها القيم الأخلاقية، وتوارى فيها صوت العدالة خلف ضجيج المصالح، وسط انحدار
المسؤولية الدولية أمام منطق البلطجة والسطو، لا سيما حين تتحوّل المساعدات إلى
وسيلة ابتزاز لا أداة إنقاذ. وبين سعي سياسي لفرض وقائع ميدانية، ورفض قانوني
وإنساني واسع النطاق، تبدو الخطة الأمريكية- الإسرائيلية وكأنها تتحرك فوق أرض
ملغّمة: قد تنجح من حيث الفرض بالقوة، لكنها تفتقر إلى الشرعية والاستدامة.
قد تُفرض الخطة مرحليا بفعل الجوع والضغط، لكنها تفتقر إلى الشرعية الأخلاقية والقانونية. فالقبول تحت الإكراه لا يُنتج شرعية، والعمل الإنساني لا يُقاس فقط بما يُقدَّم، بل بكيفية تقديمه، وبمدى احترامه للكرامة الإنسانية والمعايير الدولية للعدالة
وفي ظل الحصار
الخانق، وانهيار البنية التحتية، وتدهور الخدمات الأساسية كالمياه والكهرباء
والرعاية الصحية، قد يجد سكان غزة أنفسهم مضطرين لقبول أي شكل من أشكال الإغاثة،
حتى وإن جاء خارج الأطر القانونية أو على حساب الكرامة الإنسانية. هذا القبول
القسري لا يعكس رضى، بل يعكس واقعا مفروضا بقوة الحاجة.
تستفيد الخطة من
سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على المعابر والمساعدات، ومن غياب ضغط دولي فعّال
لتنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية، وعلى رأسها القرار الصادر في كانون الثاني/ يناير
2024، الذي طالب إسرائيل بالسماح بدخول المساعدات دون تأخير أو عرقلة. كما أن غياب
بدائل عملية من المجتمع الدولي، رغم الاعتراضات المعلنة من منظمات كاليونيسف
وبرنامج الأغذية العالمي، يمنح الخطة غطاء واقعيا، لا شرعية حقيقية.
لكن في المقابل،
تحمل الخطة في طياتها عناصر فشلها. فهي مبادرة أُطلقت خارج إطار الأمم المتحدة،
وتم فيها تهميش الأونروا -الجهة التي تمثل الرابط القانوني بين اللاجئ الفلسطيني
وحقوقه- كما تم تجاهل أي جهة رسمية فلسطينية، ما يجعلها تفتقر إلى أي شرعية
تمثيلية أو مؤسسية.
تُدار الخطة عبر
شركات خاصة وأفراد على صلة مباشرة بالدوائر الأمنية والسياسية الإسرائيلية، مما
يُفقدها صفة الحياد، ويحوّلها إلى أداة لإعادة تشكيل الواقع الديموغرافي في غزة،
تحت غطاء العمل الإنساني. وهذا يربطها بمشروع أوسع يهدف إلى إعادة ترتيب القطاع
جغرافيا وسكانيا، وربما التمهيد لتهجير جماعي مقنّع.
كما أن بنيتها
المؤقتة، المعتمدة على ترتيبات أمنية ظرفية، تجعلها عرضة للانهيار مع أي تغير
سياسي أو أمني، ما يضعف من قدرتها على الاستمرار أو تحقيق أثر إنساني حقيقي.
في المحصلة، قد
تُفرض الخطة مرحليا بفعل الجوع والضغط، لكنها تفتقر إلى الشرعية الأخلاقية
والقانونية. فالقبول تحت الإكراه لا يُنتج شرعية، والعمل الإنساني لا يُقاس فقط
بما يُقدَّم، بل بكيفية تقديمه، وبمدى احترامه للكرامة الإنسانية والمعايير
الدولية للعدالة.