في
الوقت الذي تتصاعد فيه الأزمات الاقتصادية وتتراجع فيه مؤشرات الحريات في
مصر،
يتساءل الكثيرون عن الكيفية التي تُستخدم بها
البطولات الرياضية لتجميل المشهد
السياسي. إذ تتصدّر مشاهد التتويج وتنظيم الفعاليات الرياضية واجهة الإعلام،
ويُقدَّم كل فوز أو استضافة لحدث دولي بوصفه دليلا على "الريادة
والاستقرار". لكن، خلف هذه الصورة المُنمّقة، تُستغل
الرياضة كأداة سياسية
لصناعة وهم الإنجاز، لا كتعبير حقيقي عن نهضة تنموية أو تطور مجتمعي.
في
هذا المقال، نستعرض حجم الإنفاق على البطولات التي تم تنظيمها خلال السنوات
الماضية، ثم ننتقل لتسليط الضوء على دور الإعلام في طمس الحقائق وترويج الإنجازات
الوهمية، قبل أن نُحلّل كيف تُستخدم الانتصارات الرياضية كوسيلة لتهدئة الشارع
المتعب من التضخم والمعاناة المعيشية. وأخيرا، نُلقي نظرة على واقع استقلالية
المؤسسات الرياضية ومدى خضوعها للتوجيه السياسي.
بطولات كبرى.. ومليارات مهدرة؟
في فترات الأزمات، تلجأ السلطة إلى تقديم البطولات والانتصارات كوسيلة لتهدئة الشارع. فخلال السنوات التي تلت تحرير سعر الصرف في 2016، ومع تصاعد نسب التضخم وارتفاع الأسعار بشكل حاد، واصلت الدولة استثمارها في الأحداث الرياضية الكبرى، واستخدم الإعلام لغة "رفع الروح المعنوية" و"الرياضة في مواجهة الأزمات"
منذ
2014، كثّفت الدولة من تنظيم الفعاليات الرياضية الكبرى، مثل بطولة كأس الأمم
الأفريقية 2019، وبطولة العالم لكرة اليد 2021، وبطولة العالم للدراجات 2024، كما
عبّرت عن رغبتها في استضافة دورة الألعاب الأولمبية في المستقبل. ورغم عمق الأزمة
الاقتصادية وتدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين، استمر الإنفاق السخي على هذه
البطولات، دون وضوح في مصادر التمويل أو شفافية في عرض العوائد.
فقد
بلغت تكلفة تنظيم بعض البطولات أرقاما ضخمة، وصلت في إحدى المناسبات إلى أكثر من
مليار جنيه، وفي أخرى إلى عدة مليارات، دون أن يُعلن بشكل رسمي عن أي مردود
اقتصادي أو اجتماعي لهذا الإنفاق، الأمر الذي يثير تساؤلات حول الأولويات في ظل ما
يعانيه المواطنون من ضغوط معيشية متزايدة.
إعلام التهليل والإنجازات الوهمية
لعب
الإعلام الرسمي والخاص الموالي للنظام دورا محوريا في صناعة صورة مضخّمة للنجاحات
الرياضية، وربطها مباشرة بـ"عبقرية القيادة" و"رعاية الرئيس".
يتم تسويق الانتصارات الرياضية كدليل على سلامة المسار السياسي، فيما يُدفن الفشل
أو يتم تحميله للاعبين وغياب "الولاء"، دون نقد بنّاء أو مراجعة
للسياسات الرياضية أو الإدارية.
تتكرّر
العبارات مثل "تحيا مصر" و"الرئيس راعي الشباب والرياضة" في
تغطيات تتويج الفرق أو استضافة البطولات، لتتحول الرياضة من منافسة حرة تُعبّر عن
الروح الوطنية، إلى أداة للدعاية وتسكين الغضب الشعبي.
كيف تصبح الانتصارات مُسكّنا شعبيا؟
في
فترات الأزمات، تلجأ السلطة إلى تقديم البطولات والانتصارات كوسيلة لتهدئة الشارع.
فخلال السنوات التي تلت تحرير سعر الصرف في 2016، ومع تصاعد نسب التضخم وارتفاع
الأسعار بشكل حاد، واصلت الدولة استثمارها في الأحداث الرياضية الكبرى، واستخدم
الإعلام لغة "رفع الروح المعنوية" و"الرياضة في مواجهة
الأزمات"، في تجاهل تام لحقوق المواطنين الأساسية في الصحة والتعليم والغذاء
والسكن.
الرياضة،
بدلا من أن تكون جزءا من الحل، تحولت إلى أداة لتأجيل الانفجار، وإلهاء الناس عن
الواقع المتدهور، عبر مسكنات عاطفية مرتبطة بانتصارات مؤقتة لا تغير من جوهر
الأزمة.
رياضة بلا استقلال
قد
يكمن الخطر الأكبر في افتقار المجال الرياضي للاستقلالية التامة، حيث يتم اختيار
قيادات الاتحادات والأندية بناء على الولاءات السياسية والأمنية، بينما تُستبعد
الكفاءات والمستقلون. هذا الأمر يعكس واقعا يعاني فيه القطاع الرياضي من غياب
الرقابة الفعّالة على الإنفاق، إضافة إلى تغوّل الأجهزة التنفيذية على قرارات
المؤسسات الرياضية.
ما تحتاجه مصر اليوم ليس المزيد من البطولات البراقة، بل منظومة رياضية نزيهة، مستقلة، وشفافة. منظومة تُشرك الرياضيين، والجماهير، والمجتمع المدني، وتخضع للرقابة والمساءلة. فالقوة الناعمة الحقيقية لا تُصنع بالدعاية، بل بالعدالة، والفرص المتكافئة، والمنافسة النزيهة
لم
تعد الأندية الرياضية تمثل إرادة جماهيرها كما كانت في الماضي، بل تحوّلت إلى
أدوات تعمل في إطار شبكة الولاء السياسي. أصبحت الجمعيات العمومية مقيدة،
والانتخابات الرياضية تُدار وفق ترتيبات فوقية، مما يؤدي إلى تراجع القيم الرياضية
الأساسية لصالح الأجندة الرسمية.
في
جوهرها، الرياضة تمثل مرآة للمجتمع، حيث تروج لحرية الرأي، العدالة، تكافؤ الفرص،
والانضباط. وعندما تُستغل هذه القيم بشكل سياسي، تصبح الرياضة أداة لتخدير المجتمع
بدلا من أن تساهم في تنميته. في مثل هذه الحالة، تتحول الرياضة إلى "أداة
تجميل سياسي"، حيث تُفقد استقلاليتها وتُدار كجزء من جهاز دعاية، بدلا من أن
تُستخدم كوسيلة لتعزيز الصحة العامة وبناء الإنسان.
ختاما
إن
ما تحتاجه مصر اليوم ليس المزيد من البطولات البراقة، بل منظومة رياضية نزيهة،
مستقلة، وشفافة. منظومة تُشرك الرياضيين، والجماهير، والمجتمع المدني، وتخضع
للرقابة والمساءلة. فالقوة الناعمة الحقيقية لا تُصنع بالدعاية، بل بالعدالة،
والفرص المتكافئة، والمنافسة النزيهة. وعندما تتحرر الرياضة من قبضة الدولة، يمكن
أن تصبح رافعة حقيقية للتنمية، لا مجرد واجهة لتزيين الأزمات.