في قلب الكنانة،
حيث يلتقي التاريخ بالعقيدة، عاش المسيحيون الأقباط تحت ظلال الإمبراطورية
البيزنطية التي سامتهم سوء العذاب، وفعلت فيهم مثلما فعل قبلهم الرومان الوثنيون
الذين أسرفوا في القتل، لا سيما في عهد الإمبراطور دقلديانوس، الذي شهد عصره واحدة
من أشرس حملات القتل والتعذيب، حتى أن الكنيسة القبطية بدأت تقويمها المعروف
بـ"تقويم الشهداء" من بداية حكمه.
كانت الكنيسة
القبطية، برمزيتها العميقة وتاريخها الصامد في وجه القمع والتنكيل، تواجه حربا
مزدوجة؛ حربا على بقائها الروحي، وأخرى على وجودها الدنيوي. لم يكن
الاضطهاد مجرد
كلمة تُطلق، بل كان واقعا يُعاش في كل زاوية: صلبان تُحطم، ورجال دين يُنفون،
وعقيدة تُوصم بالهرطقة فيُقتل أتباعها لمجرد اختلافهم عن مذهب الحاكم. ورغم ذلك،
لم يتزحزحوا عن إيمانهم، ولم يتركوه.
لم يُسمح للأقباط
ببناء كنائس جديدة، بل حتى الكنائس القائمة أُغلقت أو حُوّلت إلى معابد تتبع
المذهب الملكاني المفروض من القسطنطينية. وقد ورد في كتابات المؤرخ القبطي سويرس
بن المقفع أن كثيرا من الكهنة اختفوا عن الأنظار أو قُتلوا، وأن الناس "كانوا
يتعبدون في السر، في البيوت أو المغارات". وذكر المؤرخ يوحنا النقيوسي أن
"الاضطهاد لم يترك للقبط موضعا يتعبدون فيه إلا خلسة، خوفا من أنظار السلطة
ورجالها".
كانت أصوات الاستغاثة ترتفع بلا مجيب، والعيون تتطلع إلى السماء طلبا للخلاص، في وقتٍ اشتدت فيه قبضة البيزنطيين وأمعنوا في القمع والتنكيل، حتى جاءت لحظة مفصلية في تاريخ مصر: الفتح الإسلامي لمصر عام 640م
كما بيّنت وثائق
المجامع الكنسية القبطية أن بناء الكنائس كان محرّما بقرار إمبراطوري، واعتُبر
خروجا عن الدين الرسمي للدولة. القيود لم تكن فقط دينية، بل اقتصادية واجتماعية
أيضا. فقد جُرِّد الأقباط من مناصبهم، وفُرضت عليهم ضرائب باهظة، وعُوملوا
كمواطنين من الدرجة الثانية في وطنهم، كما حُرموا من الصلاة بلغتهم، وتم تغيير
اللغة المستخدمة في المنشآت الحكومية إلى اللغة اليونانية، في محاولة من
البيزنطيين لفرض لغتهم ومحو اللغة القبطية بالقوة.
كانت أصوات
الاستغاثة ترتفع بلا مجيب، والعيون تتطلع إلى السماء طلبا للخلاص، في وقتٍ اشتدت
فيه قبضة البيزنطيين وأمعنوا في القمع والتنكيل، حتى جاءت لحظة مفصلية في تاريخ
مصر: الفتح الإسلامي لمصر عام 640م، والذي جاء -كما يذكر بعض المؤرخين- نتيجة
لاستغاثة بابا الأقباط. فحارب جيش المسلمين جيش بيزنطة، وقُتل ثلث جيش المسلمين
لتحرير الأقباط، كما وصف الكاتب الإنجليزي والتر إيمري.
لم يدخل المسلمون
كغزاة يسفكون دماء الأقباط، بل دخلوا بلدا منكسرا، وشعبا أنهكه القمع، فلم يجدوا
كنائس عامرة ولا كهنة ظاهرين، بل وجدوا ديانة خفية، وأمة صامتة تنتظر من يُنقذها.
وكان أول ما فعله
عمرو بن العاص، القائد المسلم، أنه أرسل في طلب البابا بنيامين، بطريرك الأقباط،
الذي كان مختبئا في صعيد مصر منذ 13 عاما. لم يطلب منه تغيير دينه، بل أمّنه
وأعاده إلى كرسيه البطريركي في الإسكندرية، وأعاد فتح الكنائس، ومنح الأقباط
حريتهم الدينية التي طالما حلموا بها.
ثم رحل الجيش
الإسلامي عن أرض مصر، ولم يبقَ سوى عدد يتراوح بين 500 إلى 4000 رجل، حسب ما ذكره
المؤرخون، وهؤلاء الرجال كانوا من طلاب العلم، ظلوا ليُعلّموا الناس تعاليم
الإسلام. لم يفرضوا الإسلام، بل عاشوا في كنف المجتمع. ومع مرور الوقت، بدأ
الأقباط يقتربون من الإسلام، لا خوفا ولا إكراها، بل رغبة في فهمه، واقتناعا بعدله.
وهنا يأتي
السؤال: كيف انتشرت اللغة العربية وصارت هي لغة مصر بينما كان عدد العرب المسلمين
الذين تركهم الجيش من 4000 إلى 500 فرد، بينما كان عدد الأقباط 7 ملايين شخص؟
الإجابة ببساطة
تقوض كل سرديات الإكراه والاضطهاد، فالأقباط بعدما شعروا بالأمان في ظل دولة
الإسلام، ورأوا الفرق بين المسلمين وغيرهم ممن حكموهم، حتى أولئك الذين كانوا على
ملتهم ولكن اختلفوا في المذهب، بدأوا في الإقبال على معرفة هذا الدين وتعاليمه،
والدخول فيه، ثم بدأوا في تعلم اللغة العربية كونها لغة القرآن.
وهكذا، كان
الأقباط أنفسهم من نشروا اللغة العربية، وهم من نقلوا هذا الدين الجديد فيما
بينهم، لا خوفا ولا رهبة، بل حبا واقتناعا. وهو ما يفسر أن عدد المسلمين في مصر
اليوم يقترب من 100 مليون.
نسيج مجتمعي جديد من الأقباط: مسيحيون ظلوا على دينهم يمارسونه بحرية، وأقباط اعتنقوا الإسلام لا كرها ولا قسرا، بل اقتناعا. فليس من العقل أن شعبا ذاق كل صنوف العذاب لقرون ولم يترك دينه، يتركه مجبرا بعد أن أمن العذاب
لم يُجبَر
الأقباط على الإسلام، بل مارسوا عقيدتهم بحرية، ودفعوا الجزية التي كانت أقل وطأة
من ضرائب البيزنطيين، وأُعفي منها الفقراء والرهبان والعجزة. لم تُفرض عليهم اللغة
أو الدين بالقوة، وإنما كانت التحولات نابعة من التفاعل والتعايش.
ومع مرور الوقت،
بدأت تُنسج قصة جديدة على أرض مصر. نسيج مجتمعي جديد من الأقباط: مسيحيون ظلوا على
دينهم يمارسونه بحرية، وأقباط اعتنقوا الإسلام لا كرها ولا قسرا، بل اقتناعا. فليس
من العقل أن شعبا ذاق كل صنوف العذاب لقرون ولم يترك دينه، يتركه مجبرا بعد أن أمن
العذاب.
أما في الحياة
الاجتماعية، فلم يكن الأقباط معزولين عن الدولة الجديدة بعد دخول الإسلام، كما حدث
معهم في السابق، بل تولّى عدد منهم مناصب عليا في الجهاز الإداري للدولة الإسلامية
عبر تاريخها، مثل:
- ابن أبي السرح القبطي، مترجم وكاتب في عهد
عبد العزيز بن مروان.
- إسطفان بن باسيل، مسؤول عن ديوان الخراج.
- بطرس بن رومانوس، من كبار موظفي الدولة
العباسية.
وكذلك غيرهم من
الأسماء التي تؤكد أن الأقباط ظلوا جزءا من نسيج الدولة الإسلامية والمجتمع.
إن الرواية التي
تقول إن الفتح الإسلامي كان احتلالا هي رواية باهتة لا تصمد أمام الوثائق
والشهادات الموثقة في العديد من كتب المؤرخين المسيحيين المصريين أو الغربيين:
- "تاريخ البطاركة"، ساويرس بن
المقفع.
- "تاريخ الكنيسة القبطية"، إيريس
حبيب المصري.
قصة الفتح الإسلامي لمصر ليست فقط فصلا من التاريخ، بل شهادة حيّة على عدالة الإسلام، وعلى صلابة أقباط مصر وصبرهم وتمسّكهم بهويتهم
- ألفرد بتلر، الذي قال بوضوح إن "الفتح
الإسلامي لمصر لم يكن غزوا، بل تحريرا للأقباط من اضطهاد استمر قرونا".
ولعل الأجمل في
هذه الحكاية ليس فقط ما جرى، بل ما بقي في وجدان وجينات الأقباط بمسلميهم
ومسيحييهم، وهي جينات مقاومة المحتل. فتمسّك الأقباط بلغتهم القبطية في وجه
الاحتلال الروماني والبيزنطي كان فعلا مقاوما، كما قاوم المصريون اللغة الفرنسية
والإنجليزية إبان الاحتلال، ورفضوها.
وهكذا، فإن قصة
الفتح الإسلامي لمصر ليست فقط فصلا من التاريخ، بل شهادة حيّة على
عدالة الإسلام،
وعلى صلابة أقباط مصر وصبرهم وتمسّكهم بهويتهم.
ختاما، فإن هذا
المقال لا يسعى إلا إلى توضيح الحقائق وردع أي محاولات لضرب النسيج المجتمعي في
مصر. وندعو أبناء الوطن من المسلمين والمسيحيين إلى قراءة التاريخ بعين الباحث عن
الحقيقة، لا بعين الأهواء والتعصّب.
إن صلابة
الأقباط، وعدالة الإسلام، وقدرة مصر على احتضان الجميع، تشكل أساسا متينا لوطن
واحد، لا يفرّق بين أبنائه، بل يوحدهم تحت راية العدالة والكرامة والاحترام
المتبادل.