كتاب عربي 21

وللهوامش إسلامها

جعفر عباس
آخر يوم خميس في رمضان يسمى في السودان، يوم "الرحمات"، حيث يحتفي الناس بقرب إكمال صومهم للشهر. وفيه يكون التصدق بالطعام على الفقراء والأطفال على وجه الخصوص.. الأناضول
آخر يوم خميس في رمضان يسمى في السودان، يوم "الرحمات"، حيث يحتفي الناس بقرب إكمال صومهم للشهر. وفيه يكون التصدق بالطعام على الفقراء والأطفال على وجه الخصوص.. الأناضول
بعد أن ربطت وسائل المواصلات، والاتصال الحديثة، بين مختلف رقاع العالم، صرنا نعرف الكثير عن مسلمين، حسُني الإسلام، ولكنهم يمارسون أمورا كثيرة تخالف صحيح الاسلام، ومن هنا جاء مصطلح إسلام أهل الهوامش، وليس في العبارة استخفاف بهم، بل المقصود بها من يعيشون على هامش أي أطراف كتلة البلدان التي تشكل العالم الإسلامي التاريخي، ففي جنوب شرق آسيا مثلا، فإن أحكام غطاء الشعر والرأس، مُقَدَّمٌ عند بعض نسائها على ستر أجزاء أخرى من الجسد، لا يجوز للمرأة تركها مكشوفة، وبعض مسلمي الهند يجاري الهندوس ويجعل الفتاة تتكفل بالمهر ونفقات الزواج، وعند بعض قبائل باكستان المسلمة، يعاقب من يغتصب فتاة، بأن يؤتي بأخته ـ مثلا ـ ليغتصبها بعض أقرباء الفتاة المجني عليها، ويعاقبون من يقترن بفتاة من عائلة "فوق مستواه الاجتماعي" دون رضاء أهلها بعقوبة مماثلة. ومع هذا يوصفون بأنهم متشددون دينيا.

وإذا وجدنا العذر لهؤلاء فماذا نقول عمن يعيشون في قلب ديار الاسلام ويعتقدون أن المنجمين والمشعوذين قادرون على الرجم بالغيب ودفع الأذى وجلب كل ما هو طيب ومشتهى؟

عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر مُحَرَّم في التقويم الهجري، وهو من الأيام المستحبّ صيامها، وقد ورد في ذلك الكثير من الأحاديث التي تذكر فضل يوم عاشوراء وأجر صيامه. أما نحن في شمال السودان النوبي فقد كنا نحتفل في هذا اليوم بالإكثار من الأكل في أول المساء، دون أن يسبق ذلك صيام، بل كان يتم تشجيع الصغار على تناول أكبر كمية ممكنة من الطعام، "لأن من لا يشبع في يوم عاشوراء، لن يشبع أبداً"، ولم نكن ونحن صغار بحاجة إلى مثل ذلك التشجيع، فقد كان الطعام الجيد شحيحاً، وكانت العائلات تحمل طعامها وتجلس قرب شاطئ النيل، وقبل أن يضع أحد لقمة في فمه تقوم الأم أو كبيرة العائلة بإلقاء بعض الطعام في النهر، وحتى عندما يتعذر ذهاب العائلة لشاطئ النيل كان الطقس الثابت هو رمي "فتفوتة" طعام في اتجاه النيل قبل البدء في الأكل، ويتخلل كل ذلك سباحة للصبية في النهر، وهم يرددون "أشورة فانة تود يوب يوب" وأشورة هنا هي عاشوراء لتعذر نطق حرف العين عند أهلنا، أما فانّة فهي فاطمة عند النوبيين، وتود تعني ولد، ومن ثم ففي العبارة استحضار للحسين رضي الله عنه، ابن فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، أما "يوب، يوب" فهي مفردات عبثية لزوم الدوزنة أي ضبط النغم. وهكذا اجتمع في عاشوراء النوبية طقس تقديس النهر واستعطافه كي يفيض بالخير، بطقس احياء ذكرى استشهاد الحسين.

آخر يوم خميس في رمضان يسمى في السودان، يوم "الرحمات"، حيث يحتفي الناس بقرب إكمال صومهم للشهر. وفيه يكون التصدق بالطعام على الفقراء والأطفال على وجه الخصوص، بنية ذهاب ثوابه للراحلين من أفراد الأسرة، أما آخر جمعة في رمضان والتي يسميها كثير من المسلمين بالجمعة اليتيمة وهي تسمية ليس لها أصل في الشرع، فقد خصصت في السودان لـ"عشاء الميتين"، فيعدون طعاما (عادة فتة بالخبز والرز ومرق اللحم) ويعتبرونه صدقة على أرواح موتاهم.

وكنا في صبانا في جزيرة بدين نطوف نهار ذلك اليوم في جماعات، ونركز على بيوت البرجوازيين من الموتى، لأن البرجوازيين لا يفوتون فرصة حتى لو كانت المناسبة حزينة لإثبات أنهم أعلى شأنا من الآخرين، وبالتالي كان هناك في تصنيفنا موتى ذوي "خمس نجوم"، نحرص على زيارة بيوت ذويهم ونحن موقنون بأنهم سيقدمون لنا وجبة "عليها القيمة"، وموتى "نجمة واحدة" لم نكن نرى أن هناك ما يبرر دخول بيوتهم. الغريب في الأمر أن المشروم، ذلك الفطر الذي يُقدم حاليا في المطاعم الراقية، كان عندنا في شمال السودان النوبي طعاما للفقراء، يستخدمونه بديلا للحم، والدليل على النظرة الدونية للمشروم هو أنه يسمى باللغة النوبية "كجن قور" أي "علف الحمير". وكان ينمو على حواف الجداول في المزارع، وكان الناس يقدمونه طعاما للبهائم.

ي الساعات الأولى من عيد الفطر كنا في سن الصبا نهرع إلى المقابر، حيث درجت العادة أن تقوم نساء بلدتنا بوضع بعض التمر والكعك والحلوى على شواهد قبور موتاهم، وكنا قبل العيد بأيام نقوم بجولات استكشافية نحدد فيها قبور الموتى البرجوازيين، لأن أهلهم كانوا يقدمون لهم (ومن ثم لنا) نوعيات جيدة من الكعك والحلوى.
وفي الساعات الأولى من عيد الفطر كنا في سن الصبا نهرع إلى المقابر، حيث درجت العادة أن تقوم نساء بلدتنا بوضع بعض التمر والكعك والحلوى على شواهد قبور موتاهم، وكنا قبل العيد بأيام نقوم بجولات استكشافية نحدد فيها قبور الموتى البرجوازيين، لأن أهلهم كانوا يقدمون لهم (ومن ثم لنا) نوعيات جيدة من الكعك والحلوى.

وانظر هذه الواقعة في مصر الأزهر: كانت سيدة مصرية في قمة السعادة بمناسبة زواج ولدها الوحيد، وبعد انتهاء حفل الزواج وانفضاض المدعوين، منعت الأم الزوجين من دخول غرفة النوم الخاصة بهما إلى حين تفرغ من تبخيرها، حتى تطرد شياطين قال عراف إنهم سيسبقون ولدها إلى غرفة النوم حيث أول خلوة له مع العروس. اعترض العريس وقال لها إنه سيدخل الغرفة مستعيذاً من الشيطان، وسيقرأ المعوذتين وآية الكرسي، ولكن الأم أخبرته أن البخور الذي ستستخدمه لدرء خطر العين عنهما من إعداد رجل "مبروك" مشهود له بالكفاءة وإعداد الخلطات السحرية "اللي ما تخرش ميّة"، وحملت الأم المبخرة وطافت بها أرجاء غرفة نوم الزوجين. ثم تركت المبخر في الغرفة حتى تتشبع جميع مساماتها به، ويتسلل الدخان إلى الشياطين فتدمع عيونها وتهرب، وأغلقت باب الغرفة وجلست مع ولدها وعروسه في "الصالة" في انتظار إتيان البخور المبروك مفعوله. ثم وفي نفس البيت الذي كانت تتعالى فيه الزغاريد، و"اتمخطري يا حلوة يا زينة"، تعالى عويل: يا لهوي يا لهوتيني يا تلات لهاويني.. يا مصيبتي.. إلحقونا.. وما حدث هو أن البخور المبروك قضى على الشيطان، وأغرته نشوة النصر بالزحف على غرف البيت الأخرى، فكان حريقا جعل الشياطين "تطفش" من الحي بأكمله.

قبل سنوات نشرت مؤسسة بحثية سعودية نتائج دراسة حول الدجل في المنطقة العربية، جاء فيها أن عائدات الدجل فيها تناهز خمسة مليارات دولار.

وإذا كان هذا حال الكتلة الصلبة من العالم الإسلامي، فعلام العجب من ممارسات مسلمي الهوامش؟
التعليقات (0)