قضايا وآراء

أصدقاء وأعداء "سوريا الجديدة"

هشام الحمامي
"سيبقى العامة من الناس هم أوفي الأصدقاء، فهم عماد الأوطان"- سانا
"سيبقى العامة من الناس هم أوفي الأصدقاء، فهم عماد الأوطان"- سانا
أن يكون العدو معلَنا مجاهرا بعداوته، فذلك مما يساعد كثيرا في مواجهته والتعامل معه، الخطورة الحقيقية في العدو الذي يبدو في ثياب صديق، وتزداد خطورته حين تكون عداوته ناتجة عن أحقاد دفينة، وليس عن مجرد تعارض مصالح تذهب وتجيء، على الجانب الآخر، سنجد أن الصديق المعلن شيء رائع بالطبع، ورصيد كبير في أوقات الشدة والأزمات، لكن الصديق الخفي سيكون له مزايا كثيرة، لا يملكها غيره من خلال مكانه ودوره.

ولعل مؤمن آل فرعون نموذجا مثاليا لحالة "الصديق الخفي" الذي يكتم أفكاره ورؤيته، وهو في واقع الحال يقوم بمهام يعجز عنها غيره، ليس فقط في معرفته القريبة بطريقة ومنهج تفكير هذا العدو، ولكن في خطواته وأفعاله التي سيكون المعرفة المبكرة بها، بالغة الأهمية في المواجهة، وما كان خروج سيدنا موسي عليه السلام إلى مدين إلا بنصيحة من "الصديق الخفي" الذي جاء من أقصى المدينة خصيصا، لينبه النبي الكريم أن هناك مؤامرة تحاك الآن ضده، وعليه أن يتخذ قرارا بصددها، والخروج هو أفضل هذه القرارات.. وقد كان.

* * *

ولا يمكننا أن نمر على مبتدأ هذا "الخروج" وخبره وفعله وحاله، دون أن نقف وقفة تأمل سريعة عند مفهوم أرهق العقل الإنساني كثيرا وهو مفهوم "القدر".. لأن الإنسان بطبيعة تكوينه، غير مهيئ لفهمه كما عرفنا من جولات "السفينة والغلام والجدار" في سورة الكهف.

ما حدث هو أن النبي موسى اخذ بنصيحة "الصديق الخفي" وخرج، فورد ماء مدين، كما أخبرنا النص القرآني، وشاهد موقفا لم تحتمله أخلاقه ولا مروءته ولا طباعه الإنسانية الأطهر والأشرف، وهو موقف التزاحم على الماء من قبل الناس المتدافعين، وفي جانب آخر امرأتين تقفان في توجس وترقب وانتظار.
"سوريا الجديدة" بمن حولها من أعداء، ومن حولها من أصدقاء، تجوب وتتحرك في هذه الثقافة وهذه المعاني التي سيستنطقها القدر، ومسيرة القافلة في سياق هذا القدر، محوطة بـ"الشرط الإنساني" في الفهم والسعي والحركة في اتجاه القدر

ستكسب الأخلاق دائما، حتى وإن كانت هي الاختيار الأصعب، ذلك أن النبي الكريم المطارد الملاحق سيروّعه مشهد "انعدام المروءة" غير الإنساني وغير الأخلاقي وغير المفهوم، وسيذهب إليهما، ويسألهما "ما خطبكما؟"، ويُنهي لهما حاجاتهما فورا، وفورا أيضا سيتركهما دون ملاحقة وتطفل، ويعود إلى حاله مع ربه في ظل شجرة. نحن هنا أمام تجليات وتحركات القدر، الذي سيصنع أقدارا، ليس هذا فقط، بل وسنرى قانون المراحل والانتقال المنطقي من حال إلى حال متقدما في اتجاه المقصد والغاية.

ورحم الله الأستاذ العقاد، وسنذكره هذه الأيام في ذكرى وفاته (13 آذار/ مارس 1964م) حين نشير إلى ما ذكره في كتابه الأروع "الله" الذي صدر عام 1947م.. عن الإبداع والنظام والعناية، في خلق الكون، و"الأيام الستة" التي ذكرها النص القرآني.. لنعلم ونتعلم ثقافة "فقه المراحل" التي تنقل الواقع القائم، من حال نقصان، إلى حال اكتمال، أسلم وأشمل.

* * *

وأتصور أن "سوريا الجديدة" بمن حولها من أعداء، ومن حولها من أصدقاء، تجوب وتتحرك في هذه الثقافة وهذه المعاني التي سيستنطقها القدر، ومسيرة القافلة في سياق هذا القدر، محوطة بـ"الشرط الإنساني" في الفهم والسعي والحركة في اتجاه القدر، القدر الذي ينتهي إلى قوله تعالى "إن ربك فعّال لما يريد".

وسنسمع من أفقه المؤمنين لكتاب الله، "الفاروق" رضى الله عنه، جملة من أبدع وأروع ما قيل في فهم هذا "الشرط الإنساني" الذي حيّر عقول وألباب الفلاسفة والمفكرين هنا وهناك.. ماذا سيقول "عمر"؟ سيقول لنا "لو كان الحذر لغوا، لما أُمرنا به".. في إشارة نافذة إلى قوله تعالى "وخذوا حِذركم..".

* * *

الحالة السورية الحالية، في حركتها عبر مجرى التاريخ، ليست بعيدة أبدا عن الحالة الفلسطينية في غزة، هناك "شيء ما".. جديد ونوعي، ويمتلك خصائص لم يرها الشرق من قبل، ليست فقط لما تحمله من الوعي الإيماني بحقائق التاريخ.

الحالة السورية الحالية، في حركتها عبر مجرى التاريخ، ليست بعيدة أبدا عن الحالة الفلسطينية في غزة، هناك "شيء ما".. جديد ونوعي، ويمتلك خصائص لم يرها الشرق من قبل، ليست فقط لما تحمله من الوعي الإيماني بحقائق التاريخ
ولكن لهذا الفهم العميق لقوانين التاريخ، دون سفسطة ولجاجة في الحديث عن العلاقة الجدلية بين الاثنين: هل التاريخ يصنع الإنسان، أم الإنسان هو من يصنع التاريخ؟ لا يهم.. ما يهم هو المقصد والغاية، واستيعاب ما كان، في الحركة باتجاه ما سيكون.

* * *

كل أعداء "سوريا الجديدة" هم كل أعداء "طوفان الأقصى"، وهذه صورة واضحة وبارزة بتجسيد مجسم، إلى حد العرفان بأجزل الشكر، لهذه الأحداث التي جعلت اصطفاف المواقف بهذه العلانية العارية، وإن كثر التجمل والكلام.

فالنظام العربي الرسمي الذي أخذ موقفا قديما عتيقا، من فكر النهضة والإصلاح، الذي قدمه زعماء الإصلاح عبر القرنين الماضيين، استلهاما من حقيقة الأمة الواحدة وذاتها المتحققة عبر التاريخ: "الإسلام"، هذا النظام لا زال على موقفه القديم العتيق. ليس فقط لأن هناك قرارا دوليا صارما بتجميد الواقع في الشرق على صورته تلك، ولكن لأن هذه الأنظمة رضعت من اليوم التالي لخروج الاحتلالات الأوروبية، كراهية هذا النموذج، وضرورة إبعاده والابتعاد عنه.

* * *

والاستشراق كان له دور كبير وعلى مدى طويل، في ترسيخ هذا البعد والإبعاد كما عرفنا من د. إدوارد سعيد رحمه الله، لكن واقع الحال الذي يمثله النظام العربي الرسمي ينص نصا، على أن يكون التصور الإسلامي للتاريخ والإصلاح والدنيا والناس خارج "المنظومة" تماما.
إسرائيل تنظر إلى سوريا الجديدة بنفس زاوية النظر الغربية، وكل ما تقوله وتفعله تجاهها ما هو إلا تصورات وأفكار الغرب، والغرب لم ينس، ولن ينسى، أنه كان هنا يوما ما، والإسلام أخرجه منها

وأتصور أن العداء لحركة المقاومة الإسلامية في حماس، جزء بسيط منه بسبب اعتمادها لفكرة الجهاد والنضال المسلح، وعشرات الأجزاء لأفكارها عن التاريخ والواقع والمستقبل النابع من الفكر الإصلاحي الأول. وهو نفسه الموقف الكائن، والذي سيكون مع "سوريا الجديدة"، لكن الضربة التي لا تقتلني.. تمنحني قوة وخبرة.

إسرائيل تنظر إلى سوريا الجديدة بنفس زاوية النظر الغربية، وكل ما تقوله وتفعله تجاهها ما هو إلا تصورات وأفكار الغرب، والغرب لم ينس، ولن ينسى، أنه كان هنا يوما ما، والإسلام أخرجه منها، لتحرير أهلها وفك قيودهم.

لكن الأصدقاء ليسوا قليلين.. وأتصور أن تركيا الجديدة (العدالة والتنمية) قامت بدورين عظيمين في عصرنا الحديث، لن ينساهما تاريخ العروبة والإسلام، يوم أن حافظت على طرابلس، من الوقوع في قفاز خليفة حفتر، ومن يرتدي هذا القفاز، ويوم أن وقفت من قريب، تنظر باهتمام إلى دمشق وهي تفتح ذراعيها لتحتضن ذاتها وتاريخها وروحها.

وسيبقى العامة من الناس هم أوفي الأصدقاء، فهم عماد الأوطان وجماع الأمة، أعلام الحق، وشهداء الله في الأرض.

x.com/helhamamy
التعليقات (0)