قضايا وآراء

هيئة تحرير الشام وقيادة الشرع والطفرة السياسية الجهادية

طارق الزمر
"هيئة تحرير الشام استفادت من تجارب الحركات الإسلامية الأخرى في المنطقة"- جيتي
"هيئة تحرير الشام استفادت من تجارب الحركات الإسلامية الأخرى في المنطقة"- جيتي
تطور النضج السياسي للحركات الجهادية في سوريا، وخاصة هيئة تحرير الشام، يعكس قدرتها على التعلم من تجارب الماضي والتكيف مع البيئة المتغيرة، فمن خلال البراغماتية السياسية، وبناء التحالفات المحلية، وتطوير الهياكل الإدارية، تمكنت من البقاء لاعبا رئيسا في المشهد السوري، وقد واصلت نجاحها بعد الإطاحة بنظام بشار من خلال اعتماد نهج سياسي بارع وخطاب معتدل تجاه كل الأطراف المهمة بالداخل والخارج.

منذ بداية الثورة السورية عام 2011، مرت الحركات الجهادية في سوريا، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا)، بمراحل متعددة من النضج السياسي والعملي. تطورت هذه الحركات من كيانات مقاومة عسكرية بحتة إلى تنظيمات سياسية وعسكرية أكثر براغماتية، حيث أظهرت قدرة على التكيف مع الواقع السوري المعقد والمتغيرات الإقليمية والدولية.

بدأت هيئة تحرير الشام كفرع لتنظيم القاعدة في سوريا، متبنية أيديولوجيا جهادية متشددة، لكنها تطورت تدريجيا إلى كيان أكثر مرونة وبراغماتية، وفي 2016 أعلنت انفصالها عن القاعدة وأعادت تسمية نفسها بهدف تحسين صورتها وكسب قبول إقليمي ودولي، مما يعكس نضجا في فهمها لأهمية التكيف السياسي.

أدركت هيئة تحرير الشام أن التبعية لتنظيمات جهادية عالمية مثل القاعدة تسبب عزلة دولية وحرمانها من الدعم المحلي والإقليمي، وقد أدى هذا الوعي إلى اتخاذ خطوات للابتعاد عن هذه التنظيمات وتقديم نفسها كقوة وطنية معنية بالدفاع عن الثورة السورية، لا كجزء من مشروع جهادي عالمي.

من أبرز مظاهر نضج الهيئة السياسي قدرتها على إدارة المناطق المحررة في الشمال السوري، خاصة إدلب، من خلال "حكومة الإنقاذ السورية" التي أنشأتها لإدارة الخدمات العامة، كما أظهرت هذه التجربة قدرة الهيئة على الانتقال من مجرد حركة مقاومة إلى قوة حاكمة تقدم خدمات تعليمية وصحية واقتصادية، مما عزز شرعيتها محليا.

أظهرت الهيئة مرونة تكتيكية في التعامل مع القوى الإقليمية، خاصة تركيا، حيث وافقت على التنسيق معها لضمان بقاء سيطرتها على إدلب وتجنب أي تصعيد عسكري شامل، وعلى المستوى الميداني قامت بإعادة هيكلة قواتها وتبني استراتيجيات دفاعية وهجومية أكثر كفاءة، مما مكّنها من الحفاظ على المناطق التي تسيطر عليها رغم الضغوط العسكرية من النظام السوري وحلفائه

أدركت هيئة تحرير الشام أهمية كسب دعم الفصائل الأخرى والمجتمع المحلي لتجنب العزلة، فقامت بتشكيل تحالفات مع فصائل محلية أصغر لتحقيق أهداف مشتركة، كما عملت أيضا على استقطاب النخب القبلية والدينية في المناطق الخاضعة لسيطرتها لضمان الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

طورت الهيئة أدواتها الإعلامية بشكل كبير، مستغلة وسائل الإعلام التقليدية والجديدة لإيصال رسائلها، وركزت على تقديم نفسها كمدافع عن الثورة السورية، مستفيدة من معاناة السكان جراء القصف والحصار، لتبرير سيطرتها على المناطق المحررة.

سعت الهيئة إلى بناء شرعية سياسية محلية عبر توفير الأمن والخدمات للسكان، حيث قدمت نفسها كبديل للنظام السوري الذي تسبب في تدمير المدن والبنى التحتية، كما ركزت على الترويج لفكرة أنها تسعى لتحقيق الاستقرار وليس فقط للمقاومة المسلحة.

أظهرت الهيئة نضجا سياسيا في التعامل مع المصالح الإقليمية، خاصة مع تركيا التي تمتلك نفوذا واسعا في شمال سوريا، كما قبلت الهيئة بوجود نقاط المراقبة التركية وتنسيق العمليات العسكرية، مما مكّنها من الحفاظ على مواقعها في إدلب وتجنب هجمات كبرى من قوات النظام.

برغم المنافسة مع فصائل إسلامية أخرى مثل حركة أحرار الشام وجيش الإسلام، أظهرت الهيئة قدرة على إدارة التوترات عبر الدخول في تحالفات مؤقتة أو تهدئة الصراعات، بما يضمن استمرار نفوذها، كما خففت هيئة تحرير الشام من لهجتها الدينية المتشددة، واعتمدت خطابا أكثر اعتدالا عند مخاطبة المدنيين والمجتمع الدولي، لتجنب وضعها في خانة الحركات الإرهابية، وقد برز هذا التوجه في محاولة الترويج لحكومة الإنقاذ ككيان مدني يعبر عن مصالح السكان، وليس مجرد واجهة دينية متشددة.

بينما كانت الحركات الإسلامية الأخرى مثل أحرار الشام وجيش الإسلام تضعف بسبب الانقسامات أو القتال مع النظام، نجحت هيئة تحرير الشام في تعزيز موقعها كالقوة الأبرز في الشمال السوري، وقد جاء هذا التحول نتيجة قدرة الهيئة على تبني مقاربات سياسية وعسكرية مرنة مكنتها من البقاء على الساحة رغم التحولات الميدانية.

اهتمت الهيئة بتحسين الظروف المعيشية للسكان في المناطق التي تسيطر عليها، حيث ركزت على توفير المواد الغذائية الأساسية وتنظيم الأسواق المحلية، وأنشأت مؤسسات خيرية وخدمية تهدف إلى تخفيف الأعباء عن المدنيين، ما ساعدها في تعزيز حضورها الشعبي.

يبدو للمراقبين بوضوح أن هيئة تحرير الشام استفادت من تجارب الحركات الإسلامية الأخرى في المنطقة، مثل حركة حماس وحزب الله، في كيفية تحقيق التوازن بين العمل العسكري والسياسي، وتجنب الأخطاء التي وقعت فيها بعض الجماعات الجهادية العابرة للحدود.

أظهرت الهيئة نضجا داخليا من خلال تقليل الانشقاقات وحسم الخلافات داخل قيادتها، كما عملت على حماية وحدة صفها الداخلي عبر سياسات صارمة، ما مكّنها من تجنب الانهيار الذي تعرضت له فصائل إسلامية أخرى.

رغم تصنيفها كمنظمة إرهابية من قبل عدة دول، حاولت الهيئة تحسين صورتها من خلال تقديم تنازلات سياسية وتأكيد استقلاليتها عن القاعدة، كما أظهرت قدرتها على التكيف مع الضغوط الدولية عبر قبول المبادرات التركية وتجنب الهجمات الكبرى التي قد تؤدي إلى تصعيد دولي.
التعليقات (0)

خبر عاجل