مقابلات

أطباء بلا حدود لـ"عربي21": الاعتراف بفلسطين لن يوقف إبادة غزة إلا بخطوات عملية

منذ بداية العدوان فقدت "أطباء بلا حدود" 13 من أعضائها في غزة- أطباء بلا حدود
أكدت رئيسة المكتب الإعلامي الإقليمي لمنظمة "أطباء بلا حدود"، إيناس أبو خلف، أن "البيانات الدبلوماسية أو الاعترافات الدولية الأخيرة بالدولة الفلسطينية لن توقف الإبادة الجماعية الجارية في قطاع غزة، ما لم تقترن بضغوط جدية وحقيقية وإجراءات ملزمة تُفضي إلى وقف القصف، ورفع الحصار المفروض على غزة، وضمان وصول المساعدات الإنسانية بشكل آمن ودون عوائق".

وأشارت أبو خلف، في مقابلة خاصة مع "عربي21"، إلى أن "دور الأطباء إنقاذ الأرواح ومعالجة الجرحى، لكن وقف الإبادة يتطلب قرارا سياسيا. ما يجري ليس مجرد أزمة إنسانية، بل إبادة جماعية مرعبة لا يمكن معالجتها إلا عبر ضغط سياسي وقرارات مُلزمة توقف القتل والحصار".

وقالت إن "الدعم السياسي والعسكري الدولي المُقدم لإسرائيل يمنح تل أبيب حصانة شبه مطلقة من المساءلة الدولية، الأمر الذي يشجعها على مواصلة الهجمات ضد المدنيين والمرافق الطبية دون خوف من أي رادع قانوني أو أخلاقي. ونتيجة لذلك، يجد العاملون الصحيون والفرق الإغاثية أنفسهم في وضع بالغ الخطورة".

وشدّدت رئيسة المكتب الإعلامي الإقليمي لمنظمة "أطباء بلا حدود"، على أن "استمرار تدفق الدعم العسكري الأمريكي والغربي لإسرائيل لا يساهم فقط في إطالة أمد الحرب، بل يؤدي أيضا إلى تفاقم المأساة الإنسانية في غزة".

ونوّهت أبو خلف إلى أن "وقف توريد الأسلحة فورا يُعد شرطا أساسيا لمنع المزيد من قتل وتشويه المدنيين، ولإتاحة المجال أمام الطواقم الطبية والإغاثية للقيام بمهامها الإنسانية في بيئة أكثر أمنا".

وخلال الأيام الماضية، اعترف 11 بلدا بدولة فلسطين، وهي: بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال ولوكسمبورغ وبلجيكا وأندورا وفرنسا ومالطا وموناكو وسان مارينو، ليرتفع بذلك عدد المعترفين إلى 159 من أصل 193 دولة عضو بالأمم المتحدة، وفق وكالة "وفا" الفلسطينية الرسمية.

وفيما يلي نص المقابلة الخاصة مع "عربي21":
كيف انعكست التطورات العسكرية الإسرائيلية على الأوضاع الصحية والإنسانية في مدينة غزة بالتزامن مع توسيع الهجوم البري؟


مع كل توسّع للهجوم البري الإسرائيلي يزداد الضغط بشكل مباشر على السكان المدنيين والمنشآت الصحية. "أطباء بلا حدود" وصفت أوامر الإخلاء المتكررة والواسعة بأنها "أحكام بالإعدام" لكبار السن، والمرضى، والحوامل، والجرحى، الذين لا يستطيعون الحركة، والهروب غالبا يتم تحت القصف، ومَن ينجو يجد نفسه في مناطق مكتظة لا تتوافر فيها الخدمات الأساسية.

بالتوازي مع ذلك، تتعرض المرافق الطبية لضغط هائل حيث تجاوزت نسب الإشغال قدراتها الاستيعابية بأضعاف، وبعضها أُجبر على الإغلاق بسبب القصف أو نفاد الوقود.

ما أبرز المشاهدات الميدانية لطواقم "أطباء بلا حدود" بشأن الظروف الإنسانية الناجمة عن النزوح المتكرر؟

أبرزت طواقم "أطباء بلا حدود" من خلال مشاهداتها الميدانية حجم المأساة الإنسانية التي تسبّب بها النزوح المتكرر؛ إذ وصفت الأوضاع بأنها بالغة القسوة، حيث تضطر عائلات بأكملها إلى الانتقال من منطقة إلى أخرى دون أن تتمكّن من العثور على مأوى آمن أو مستقر. ونتيجة لذلك، تشهد أماكن اللجوء المؤقتة حالة من الاكتظاظ الشديد، في ظل غياب مقومات الحياة الأساسية من مياه نظيفة وخدمات صحية ملائمة.

كما رصدت الفرق الطبية انتشار أمراض مرتبطة بسوء الصرف الصحي والاكتظاظ، مثل الأمراض الجلدية والتهابات الجهاز التنفسي، وهو ما يهدّد بظهور أوبئة أوسع نطاقا إذا استمر الوضع على حاله.

وللأسف النزوح المتكرر لا يقتصر على فقدان المأوى أو الاستقرار فقط، بل يؤدي أيضا إلى انقطاع العلاجات الدوائية، ولا سيما أدوية الأمراض المزمنة مثل السكري وضغط الدم، الأمر الذي يفاقم الحالة الصحية للمرضى ويجعلهم عرضة لمضاعفات خطيرة، ما يفاقم من الوضع الصحي العام.

هل توجد أماكن آمنة يمكن للمدنيين اللجوء إليها أم أن النزوح لا يعدو كونه انتقالا من خطر إلى آخر؟

في الواقع، لا يوجد مكان آمن في غزة؛ فالنزوح لا يعني الوصول إلى ملاذ يحمي المدنيين، بل غالبا ما يكون مجرد انتقال من خطر مباشر إلى آخر. المناطق التي تصفها إسرائيل بـ"الإنسانية" أو التي تحددها كمناطق للإخلاء لم تثبت أنها توفر الحماية؛ إذ تعرض كثير منها للقصف أو تحوّلت بسبب الاكتظاظ إلى بؤر جديدة للمعاناة الإنسانية.

والمدنيون يجدون أنفسهم في حلقة مفرغة من التنقل المستمر، بحثا عن مكان يضمن لهم الحد الأدنى من الأمان، لكنهم لا يواجهون سوى واقع قاسٍ يفاقم صدماتهم النفسية ويتركهم في حالة من العجز التام عن إيجاد مخرج حقيقي من دوامة العنف والدمار.

كيف تؤثر موجات النزوح المتزايدة على قدرة المراكز الصحية المتبقية في غزة على تقديم خدماتها الطبية؟


المنشآت الصحية القليلة التي ما زالت قيد العمل في غزة باتت تواجه ضغطا خانقا يفوق قدراتها بكثير، نتيجة موجات النزوح المتزايدة؛ فالمستشفيات تستقبل أعدادا من المرضى والمصابين تفوق طاقتها الاستيعابية بأضعاف، في وقت تعاني فيه من نقص حاد في الأدوية الأساسية، والكوادر الطبية، والوقود اللازم لتشغيل المولدات وأجهزة العناية.

بعض المستشفيات الكبرى، مثل الأهلي والشفاء ورنتيسي، تجاوزت طاقتها الاستيعابية بنسبة تتراوح بين 200 و300%، الأمر الذي يجعلها عاجزة عن التعامل مع التدفق المستمر للحالات الحرجة. هذا الاكتظاظ الهائل يؤدي إلى تأخيرات طويلة في إجراء العمليات الجراحية الطارئة، وإلى معالجة المرضى على الأرض أو في ممرات المستشفيات، بما يشكل خطرا مباشرا على حياة آلاف الأشخاص الذين يحتاجون إلى رعاية عاجلة.

ما تقييمكم لفعالية ما يسمى بـ"الممرات الإنسانية" أو "الهدن المؤقتة" التي تعلنها إسرائيل بين الحين والآخر؟


"أطباء بلا حدود" وصفت هذه الإجراءات بأنها غير فعالة؛ إذ لا توفر الأمان المطلوب ولا تضمن وصول المساعدات بشكل حقيقي. الممرات المعلنة كانت في أحيان كثيرة تحت القصف أو شديدة الخطورة، فيما "الهدن المؤقتة" لم تكن سوى توقف قصير للقصف يتبعه استئناف أعنف، ما لا يمكّن المدنيين من الحصول على الحماية أو المساعدات. المنظمة تؤكد أن المطلوب ليس نوافذ إنسانية محدودة، بل وقف إطلاق نار شامل ومستدام.

إلى أي مدى انهارت المنظومة الصحية في قطاع غزة اليوم خاصة مع تجاوز نسب إشغال المستشفيات طاقتها الاستيعابية؟

أكثر من نصف المستشفيات خرجت عن الخدمة، والبقية تعمل فوق طاقتها في ظل نقص حاد في الوقود والكهرباء والأكسجين والإمدادات الأساسية، حتى وحدات العناية المركزة وغرف العمليات لم تعد قادرة على الاستجابة بكل أسف.

وصفتم ما يجري في غزة بأنه "إبادة ممنهجة" لا مجرد كارثة إنسانية؛ فعلى أي أسس قانونية وإنسانية يستند هذا التوصيف؟


توصيف "أطباء بلا حدود" يستند إلى نمط متكرر وواسع من الهجمات الممنهجة التي تستهدف المدنيين والبنية التحتية الصحية على نحو مباشر، إلى جانب سياسات الحصار والتجويع المتعمد التي تُمارَس بحق سكان غزة، وهذه الممارسات تتوافق مع العناصر الأساسية لتعريف "الإبادة الجماعية" الوارد في القانون الدولي، حيث تشمل الأفعال الهادفة إلى التدمير الجزئي أو الكلي لجماعة قومية أو إثنية أو دينية، وقد استشهدت منظمتنا بقرارات محكمة العدل الدولية التي ألزمت إسرائيل باتخاذ تدابير لمنع وقوع إبادة جماعية، لكن استمرار هذه الأفعال رغم صدور تلك الأوامر القضائية يعزز توصيفها لما يجري في غزة باعتباره "إبادة ممنهجة" تتجاوز حدود الكارثة الإنسانية التقليدية.

تحدثتم عن سياسات "التجويع والتعطيش وقطع الإمدادات"، كيف تتجلى هذه السياسات على الأرض، وما انعكاساتها على الصحة العامة للسكان؟

الواقع الميداني يظهر انعدام الوقود اللازم لتشغيل المستشفيات والمولدات، ما أدى إلى توقف أجهزة التنفس الصناعي وحضّانات الأطفال. الغذاء يصل بشكل متقطع وبكميات غير كافية، وأحيانا يتحول توزيع المساعدات إلى موقع استهداف مباشر، حيث قُتل وأصيب العشرات في طوابير الحصول على الطعام. هذا الوضع يؤدي إلى سوء تغذية متفاقم، وانتشار أمراض مرتبطة بالمياه الملوثة، وتزايد معدلات وفيات الأطفال والمرضى المزمنين.

نظم مكتب منظمة "أطباء بلا حدود" في الأردن مؤخرا وقفة تضامنية مع الشعب الفلسطيني والعاملين في المنظمة داخل غزة تحت شعار: "لا يستطيع الأطباء إيقاف الإبادة.. قادة العالم يستطيعون".. فهل تعتزمون تنظيم وقفات مماثلة خلال المرحلة المقبلة؟


"أطباء بلا حدود" ترى أن دورها الأساسي هو تقديم الرعاية الطبية، لكنها أطلقت بالفعل حملة عالمية تحت هذا الشعار لتسليط الضوء على عجز العمل الطبي وحده عن إيقاف الإبادة. المكاتب الإقليمية والدولية نظمت كذلك وقفات مماثلة، لكن النشاط الأساسي يظل التركيز على الدعوة إلى تحرك سياسي لوقف الإبادة الجماعية.

ما الدلالات التي يحملها الشعار: "لا يستطيع الأطباء إيقاف الإبادة.. قادة العالم يستطيعون"؟

الشعار يوجّه رسالة مباشرة إلى الحكومات وصانعي القرار بأن دور الأطباء إنقاذ الأرواح ومعالجة الجرحى، لكن وقف الإبادة يتطلب قرارا سياسيا. إنه تأكيد على أن ما يجري ليس مجرد أزمة إنسانية، بل إبادة جماعية لا يمكن معالجتها إلا عبر ضغط سياسي وقرارات مُلزمة توقف القتل والحصار.

هل هناك توثيق لحجم الانتهاكات الإسرائيلية التي استهدفت منظمة "أطباء بلا حدود" منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى اليوم؟


نعم، قامت منظمة "أطباء بلا حدود" بتوثيق سلسلة واسعة من الانتهاكات التي تعرّضت لها منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى اليوم، حيث لم يسلم العاملون ولا المرافق المرتبطة بها من الاستهداف المباشر؛ فقد قُتل عدد من موظفينا أثناء قيامهم بواجبهم الإنساني، كما تعرّضت مرافق طبية وسيارات إسعاف تابعة للمنظمة أو مرتبطة بها للقصف، في خرق فاضح لقواعد القانون الدولي الإنساني.

لقد سجّلت فرقنا أيضا حوادث اقتحام متكررة وتهديدات مباشرة للكوادر الطبية، وهو ما اعتبرته منظمتنا دليلا على وجود استهداف ممنهج للعمل الطبي والإنساني في القطاع.

ومنذ اندلاع الحرب في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فقدت "أطباء بلا حدود" 13 من زملائها في غزة، فيما ما يزال جراح العظام في المنظمة، الدكتور محمد عبيد، رهن الاعتقال لدى إسرائيل منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2024، في واقعة تثير قلقا بالغا حول سلامة الكوادر الطبية العاملة في ظروف بالغة الخطورة.

كيف ينعكس الدعم السياسي والعسكري الدولي المقدم لإسرائيل على قدرة الطواقم الطبية والإغاثية على أداء مهامها؟

منظمة "أطباء بلا حدود" تؤكد أن هذا الدعم، سواء في شقه العسكري أو السياسي، يمنح إسرائيل حصانة شبه مطلقة من المساءلة الدولية، الأمر الذي يشجعها على مواصلة الهجمات ضد المدنيين والمرافق الطبية دون خوف من أي رادع قانوني أو أخلاقي. ونتيجة لذلك، يجد العاملون الصحيون والفرق الإغاثية أنفسهم في وضع بالغ الخطورة، حيث لا تتوفر لهم أدنى ضمانات للحماية رغم وضوح ما ينص عليه القانون الدولي الإنساني من واجب حماية الكوادر الطبية.

إن استمرار تدفق الدعم العسكري الأمريكي والغربي لإسرائيل لا يساهم فقط في إطالة أمد الحرب، بل يؤدي أيضا إلى تفاقم المأساة الإنسانية في غزة. وفي هذا السياق، تؤكد المنظمة أن وقف توريد الأسلحة فورا يُعد شرطا أساسيا لمنع المزيد من قتل وتشويه المدنيين، ولإتاحة المجال أمام الطواقم الطبية والإغاثية للقيام بمهامها الإنسانية في بيئة أكثر أمنا.

كيف تقيّمون مواقف المجتمع الدولي إزاء تطورات حرب غزة في ظل الاعترافات الدولية الأخيرة بالدولة الفلسطينية؟ وهل ترون أن ذلك سيساهم في وقف الجرائم الإسرائيلية؟

منظمة "أطباء بلا حدود" لا تُعلّق على الاعترافات السياسية بذاتها، لكنها ترى أن المواقف الدولية، رغم تعددها، لم تُترجم حتى الآن إلى إجراءات عملية قادرة على وقف الهجمات أو فرض حماية حقيقية للمدنيين. نحن نشدّد على أن البيانات الدبلوماسية أو الاعترافات الرمزية، مهما كانت أهميتها من الناحية السياسية، لن توقف الإبادة الجماعية الجارية، ما لم تقترن بضغوط جدية وحقيقية وإجراءات ملزمة تُفضي إلى وقف القصف، ورفع الحصار المفروض على غزة، وضمان وصول المساعدات الإنسانية بشكل آمن ودون عوائق.

ما الأولويات العاجلة التي تطالب بها المنظمة لوقف الإبادة، سواء على مستوى وقف إطلاق النار أو رفع الحصار؟

تطالب منظمة "أطباء بلا حدود" بأولويات عاجلة ينبغي العمل عليها فورا لوقف الإبادة في غزة تبدأ بوقف الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، ووقف سياسات التطهير العرقي والتهجير القسري، وصولا إلى ضمان وقف فوري ومستدام لإطلاق النار.

كما ندعو إلى رفع الحصار المفروض على قطاع غزة بشكل كامل مع ضمان دخول المساعدات الإنسانية المستقلة والآمنة بلا عوائق، ووقف الهجمات المتكررة على المنشآت الطبية والطواقم الصحية.

ونطالب كذلك بإنهاء عمل ما يُعرف بـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، التي ارتبط اسمها بمقتل أكثر من 1,400 شخص، معتبرة أن استمرارها يُشكّل خطرا مباشرا على حياة المدنيين، ولا بد من تمكين الإجلاء الطبي للمرضى العاجلين الذين يواجهون خطر الموت نتيجة انعدام العلاج، إضافة إلى الوقف الفوري لنقل الأسلحة التي تُستخدم يوميا في قتل وتشويه المدنيين. إن أي تأخير في هذه الإجراءات يعني استمرار الكارثة الإنسانية بلا هوادة.