أتصور أن "الجرأة الهجومية" التي تحدث بها
توماس باراك، سفير أمريكا في تركيا ومبعوثها إلى سوريا، عن خريطة "
سايكس بيكو"
في 25 أيار/ مايو الماضي، لم تكن انفعالا عارضا، في نقاش عابر، احتدم فسطعت فوق
رؤوس أطرافه ذات فجأة خريطةٌ لكوكب الأرض، واكتشفوا سبب الكوارث التي تلاحق
الشرق الأوسط،
فصاح أحدهم: لقد وجدتها، أو "يوريكا يوريكا" كما صاح عالم الرياضيات أرشميدس
في طرقات صقلية في القرن الثالث ق.م؟
وهذه الحادثة بالمناسبة -والتي سنرى أنها طريفة في هذا
الوقت بالذات- كانت من أجل اكتشافه، لقوة "الطفو" عند وضع جسم في الماء،
ومعرفة كثافة الجسم. لكن الأهم حينها، أنه اكتشف "معضلة التاج" التي أطاحت
برأس الصائغ، الذي صنع تاج الملك من ذهب مغشوش، مخلوط بالنحاس.
"ذهب خالص.. ذهب مغشوش" حالة ذات أهمية عتيقة،
سيكون لها حضور كبير، دائما في الأزمات والإشكالات! ليس هذا فقط، بل ورؤوس سيُطاح
بها في مجرى هذا الحضور الدائم للذهب والرجال! وسيُكشف كل شيء عن كل شيء في وقت
ما، و"تأبى الأرض التكتم" كما يقال.
* * *
نحن الآن أمام تاريخ يسقط، ليقوم مكانه تاريخ جديد، والآن، كما يقول الفيلسوف الإيطالي المعروف جرامشي، نمر بمرحلة "الوحوش الضارية" لإعادة إنتاج "الهيمنة".. أو في وضع قريب من ذلك
فنحن مثلا، لا نعرف "أسرار" لقاء روزفلت
بالملك فاروق في (14 شباط/ فبراير 1945م) على ظهر الفرقاطة "كوينسى" في
البحيرات المُرّة، قرب الإسماعيلية، وكأنه كان هناك حرص شديد على عدم إعلانه
موثقا، رغم التباين الشديد فيما ذُكر عن هذا اللقاء، ما بين "ملك" يعتز بأجداده،
ويريد الحفاظ على استقلال وكرامة بلاده، أو "ملك" بدا كطفل يلهو
بألعابه، ويتشكى من معاملة الإنجليز.
لكننا عرفنا بخاصية "الفهم والاستنتاج" ما دار
في هذا اللقاء. متى؟ بعد "فصل" السودان عن مصر سنة 1954م، وبعد "عملقة"
إسرائيل سنة 1967م.. نقطة ومن أول السطر..
* * *
لقد كان هذا هو "الهاجس الغربي" الدائم واللحوح،
للنظام الدولي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، ومن يريد أن يملأ "زكائب
الهواء" بما يحلو له من "حكايات" فليفعل.
لكن التاريخ، لا يعبأ إلا بما هو قائم بالفعل من حقائق
على الأرض، في الحدود المقبولة طبعا للخطأ والصواب في مجرى التاريخ، وما من شأنه
أن يكون، أو لا يكون.
ولدينا الأستاذ هيكل رحمه الله نموذجا متكامل النمذجة للحكايات،
نظرا لأنه أكثر من تعرض وتناول الفترة الأخطر والأهم في التاريخ العربي الحديث (الخمسينيات
والستينيات)، ونظرا لقربه وقتها من المركز الحساس لأعصاب الدولة كلها.
تحدّث كثيرا وكتب كثيرا ليبرر ما حدث، لكن "الأسرار"
كلها تكشفت في شكل نتائج، وبقانون التدرج السببي للأشياء، عرفنا وفهمنا من أي
مقدمات أتت هذه النتائج.
* * *
في مدار "الحكايات" وفن أن تكون دائما على
صواب! سيكون لدينا خبر قصف المستشفيات حاضرا طازجا، وما قالته إسرائيل عن قصفها
للمستشفى الأوروبي في غزة يوم 9 حزيران/ يونيو الجاري، وبين ما قالته عن قصف إيران
لمستشفى سوروكا في بئر سبع بعدها بعشر أيام فقط (19 حزيران/ يونيو)! وبلا أي خجل، بل
وبلا أي تحسب لردود الفعل في الرأي العام الدولي، وكما قال السفسطائي الشهير جورجياس:
إن أهم أداة للسيطرة على الآخر، هي الكلام..!
دون فكر، دون معرفة، دون حقيقة، كل ما تحتاجه فقط هو
"البلاغة".. هو حيل القول والكلام وخداعاته، في مزايدة احترافية لعوبة،
وأيضا مقززة.
* * *
لم يأخذنا أرشميدس بعيدا في كل الأحوال، إذ يبدو أنه
هناك الآن حالة "تعويم" للشرق الأوسط إلى حين الاهتداء إلى بديل لما
وصفه المبعوث الأمريكي توماس باراك بـ"الخطأ ذي الكلفة على أجيال بأكملها"!!
الرجل يشير إلى اتفاقية سايكس بيكو (1916م) هكذا نصا
فصا!.. وأضاف في منشور له على منصة إكس أن الغرب فرض قبل قرن من الزمان
خرائط
وانتدابات وحدودا، مرسومة بالحبر، وأن اتفاقية سايكس بيكو قسمت سوريا و"المنطقة"،
لأهداف استعمارية، لا من أجل السلام، وأن المستقبل سيكون لحلول تنبع من داخل "المنطقة"
وعبر الشراكات القائمة على الاحترام المتبادل.
* * *
يقولون إنه ليس هناك أفضل من الحروب لحلحلة الأوضاع غير
القابلة للاستمرار أو التطور، وهذا صحيح، الحرب بالفعل هي المحرك للتطور التاريخي عبر
الزمن.
لن نتحدث هنا عن حديثا تقليديا بسيطا، عن "مؤامرة"
تقف خلف ما يجرى الآن في الشرق الأوسط، من حرب كبيرة بين إيران وإسرائيل.. لماذا؟..
لأن حاضر التاريخ وواقع الجغرافيا، كانا قد تجهزا تجهيزا لهذه الحرب.. حاضر "ما
بعد 7 أكتوبر".. طوفان الأقصى، الذي تداعت فيه وبه وبعده الأحداث، وتفاعلت، إلى
أن وصلت لتلك "المواجهة الضارية" التي يراقبها ويترقبها العالم اليوم، وهو
يحبس أنفاسه.
* * *
7 أكتوبر لم تكن مؤامرة من تلك المؤامرات الخبيثة، الذي
اعتاد الشرق طويلا، على تلقيها، ثم الاضطراب في حبائلها، ثم محاولة التعاطي معها،
بعد "فوات الأوان".. لا لم تكن كذلك.. لقد تم تبادل أدوار تاريخي، بين
الأطراف الفاعلة والمفعول بها، ذاك أن "الطوفان" كان قد وضع العدو في
ذات "المربع" الذي اعتاد الشرق أن يقبع فيه طويلا، متلفتا في استكانة، ليلتقي
بمصيره الذي قرره له غيره.
كلمات الشهيد محمد الضيف في التحضير للطوفان، بالغة
الوضوح، بالنظر لفكرة "التطور التاريخي عبر الزمن"، حين قال: نستطيع أن
نغير مجرى التاريخ، ويكون لنا السبق في هذه الفترة الزمنية، ونحقق يوما من أيام الله..
هذا نص تقفز الكلمات والعبارات فيه قفزا، لتعبر عن حقائق
جادة وجديدة تماما، على الواقع وعلى الوعي بهذا الواقع.
وعبارة "هذه الفترة الزمنية" تشير بوضوح إلى
أن هناك فترات زمنية لاحقة، ستقوم على هذه الفترة الزمنية التي ستؤسس لما بعدها..
وهو ما حدث ويحدث بالفعل.
* * *
نحن الآن أمام تاريخ يسقط، ليقوم مكانه تاريخ جديد، والآن،
كما يقول الفيلسوف الإيطالي المعروف جرامشي، نمر بمرحلة "الوحوش الضارية"
لإعادة إنتاج "الهيمنة".. أو في وضع قريب من ذلك.
سيبدو نتنياهو في هذه المشاهد الكبرى صعلوكا ضئيلا، ودعيّا، تائها، في مهمة الضلال، يلعب به "الآخرون"، متوهما أنه يلعب بهم
لكن الملفت هو أن هناك بالتأكيد من دفع بالمواجهة لتكون
على هذا المستوى "الضاري" الذي لا يمكن أن يكون غيره، لصنع المراد
والمطلوب. إذ أي نظام سياسي في التاريخ لا يمكن أن يحتمل الاستمرار في العيش، بعد
أن يُقتل له، في ضربة واحدة، كل هؤلاء القادة.. وكل هؤلاء العلماء.. استباحة تامة
للجغرافيا والتاريخ، وكل ما من شأنه أن يُقر بمستوى رهيب من الإهانة والاستهانة. ويبدو
أنه، كان لا بد أن يكون ما كان.. ليكون بحجم وأثار، ما هو كائن الآن.
* * *
وهنا سيتقاطع خط الأحداث، مع هذا التصريح الصاعق في
توقيته لتوماس باراك، ذاك السبعيني القادم من عمق أعماق "السياسة الخفية"..
ليقوم وبهدوء عميق، بالإشراف على تنفيذ أدوار انتقال وتحول بالغة الأهمية، في
أوقات بالغة الدقة والحساسية.
دراساته الأكاديمية العليا، وتاريخه السياسي الزاخر،
ونشاطه الاقتصادي والمالي الضخم، كل ذلك يشير إلى أن الرجل يتواجد الآن حيث ينبغي أن
يكون.. أين؟ سفيرا لأمريكا في عاصمة البلاد التي بات على الجميع أن تمتد خيوطهم فيها
ومعها، ومنها وإليها.. (تركيا).. وسواء كنت مرحبا بذلك، أم معارضا لذلك، فهذا هو
واقع الحال.
* * *
سيبدو
نتنياهو في هذه المشاهد الكبرى صعلوكا ضئيلا، ودعيّا،
تائها، في مهمة الضلال، يلعب به "الآخرون"، متوهما أنه يلعب بهم.
x.com/helhamamy