في أعقاب الحرب
الإسرائيلية الأخيرة على
لبنان، عاد ملف "سحب
السلاح الفلسطيني" إلى
واجهة النقاش الرسمي، مدفوعا بصخب إعلامي لافت غلّب المقاربة الأمنية على الأبعاد الحقوقية
والسياسية المرتبطة بواقع اللجوء. وترافق هذا الطرح مع تصاعد الضغوط الدولية
لتطبيق القرار 1701 القاضي بحصر السلاح بيد الدولة، والقرار 1559 الذي يدعو إلى
نزع سلاح الجماعات المسلحة غير الرسمية، في ظل تأويلات باتت تُسلّط الضوء مجددا
على
المخيمات الفلسطينية وكأنها المصدر الرئيسي لاختلال الأمن والاستقرار.
لكن التعامل مع
هذا الملف لا يمكن أن يقوم على معادلة مبنية على المقايضة: السلاح مقابل الحقوق. فالحقوق،
وفي مقدمتها الحق في العمل، والسكن، والتعليم، والتنقل، ليست ورقة تفاوضية، بل
التزام قانوني على الدولة اللبنانية، وفق ما تقرّه مبادئ القانون الدولي لحقوق
الإنسان.
وبين من يرى في معالجة
موضوع السلاح خطوة لتعزيز هيبة الدولة، ومن يتخوّف من تكرار التجارب المؤلمة التي
أعقبت تجريد الفلسطينيين من وسائل الحماية، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن بناء استقرار
دائم دون الاعتراف الجدي بالحقوق؟ وهل يُعقل أن يُعالج ملف معقد بهذا الحجم بمنطق
أمني منفصل عن سياقه القانوني والسياسي والإنساني؟
التعامل مع هذا الملف لا يمكن أن يقوم على معادلة مبنية على المقايضة: السلاح مقابل الحقوق. فالحقوق، وفي مقدمتها الحق في العمل، والسكن، والتعليم، والتنقل، ليست ورقة تفاوضية، بل التزام قانوني على الدولة اللبنانية
ذاكرة مثقلة
بالسلاح والخذلان
ليس السلاح
الفلسطيني في لبنان أمرا طارئا أو مستجدا. فمنذ توقيع اتفاق القاهرة عام 1969،
وُجد هذا السلاح بغطاء رسمي لتنظيم العلاقة بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير
الفلسطينية، في سياق دعم المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي انطلاقا من الجنوب. غير
أن هذا الإطار لم يبقَ قائما، إذ ألغى مجلس النواب اللبناني اتفاق القاهرة في
جلسته المنعقدة بتاريخ 21 أيار/ مايو 1987، وهي الجلسة ذاتها التي أُقرّ فيها
إلغاء اتفاق 17 أيار/ مايو 1983 مع إسرائيل، وذلك بموجب القانون رقم 25/87، في
خطوة هدفت إلى إعادة تنظيم العلاقة بين الدولة اللبنانية والمخيمات الفلسطينية.
مع اندلاع الحرب
الأهلية اللبنانية (1975-1990)، أخذ الوجود العسكري الفلسطيني مسارا مختلفا، حين
دخل، عن قصد أو غير قصد، في وحل السياسة اللبنانية، وجرى توريطه في صراعات لم تكن
له فيها مصلحة وطنية مباشرة. ومع الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، تفاقمت
الضغوط الإقليمية والدولية التي سعت إلى تحجيم الدور الفلسطيني، فبات السلاح، في
بعض محطاته، محاصَرا بسياقات لا تعكس أولويته الأصلية: الدفاع عن الشعب الفلسطيني
وحقه في العودة.
لقد أثبتت
التجربة اللبنانية بما لا يدع مجالا للشك أن تجريد الفلسطينيين من السلاح دون
توفير أي حماية قانونية أو سياسية لم يكن يوما ضمانة للاستقرار، بل شكّل في محطات
عدة تمهيدا فعليا للمجازر الجماعية. ففي مجزرة تل الزعتر عام 1976، التي وقعت بعد
حصار دام أكثر من خمسين يوما، تشير التقديرات إلى مقتل ما لا يقل عن 3500 مدني
فلسطيني، وفق ما وثّقته تقارير الصليب الأحمر وشهادات المراقبين الدوليين، ما
يجعلها واحدة من أفظع المجازر التي استهدفت مخيما فلسطينيا في لبنان.
أما في أيلول/ سبتمبر
1982، فجاءت مجزرة صبرا وشاتيلا بعد تنفيذ الاتفاق الذي أُبرم بين الرئيس الراحل ياسر
عرفات والمبعوث الأمريكي فيليب حبيب، والذي قضى بانسحاب قوات منظمة التحرير من
بيروت وتجريد مخيمات بيروت من السلاح، مقابل وعود أمريكية- فرنسية بحماية المدنيين.
لكن تلك الوعود تلاشت، وتُرك المخيم مكشوفا أمام المجازر التي قُتل فيها ما لا يقل
عن 3000 مدني من الفلسطينيين واللبنانيين،
بحسب تقارير بعثة التحقيق التابعة للأمم المتحدة وشهادات منظمات إنسانية مستقلة.
ثم جاءت حرب
المخيمات (1985-1988) لتُعمّق الجرح الفلسطيني، إذ اندلعت
اشتباكات عنيفة في مخيمات بيروت الجنوبية ومخيمات صور، وأسفرت عن مئات القتلى
وآلاف المهجرين، في ظل غياب أي حماية قانونية أو سياسية حقيقية للاجئين.
تُظهر هذه
الوقائع الدامية أن نزع السلاح في ظل غياب الضمانات القانونية لم يكن سوى لحظة
انكشاف جماعي، تُرك فيها الفلسطينيون في مواجهة الخطر، بلا حماية، ولا مساءلة، ولا
أفق عدالة.
تجربة لجنة ما
بعد الحرب الأهلية: تسليم السلاح دون ضمانات
في أعقاب انتهاء
الحرب الأهلية اللبنانية وتوقيع وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف)، شُكّلت في
عام 1990 لجنة وزارية لبنانية لمتابعة ملف الوجود الفلسطيني المسلح خارج المخيمات،
وفُتحت قنوات حوار مع وفد فلسطيني رسمي يمثل الفصائل الوطنية. وقد تم التفاهم على
تسليم السلاح الثقيل -بما في ذلك المدافع والراجمات- إلى الجيش اللبناني في منطقة
شرق صيدا ومخيمات صور، في خطوة اعتُبرت بادرة حسن نية من الجانب الفلسطيني، ورغبة
واضحة في فتح صفحة جديدة من العلاقة مع الدولة.
إلا أن هذه
المبادرة، رغم رمزيتها السياسية والأمنية، لم تُقابَل بأي مسار إصلاحي من الجانب
اللبناني. فلم تُتّخذ إجراءات قانونية أو سياسية لتحسين أوضاع
اللاجئين
الفلسطينيين، كما توقفت اللجنة عن العمل دون إصدار تقرير رسمي أو متابعة مؤسساتية.
وبهذا، تحوّلت التجربة إلى مثال مبكر على النهج الأمني البحت في مقاربة القضية
الفلسطينية في لبنان، حيث تم التركيز على نزع أدوات الدفاع دون معالجة جذور
التهميش القانوني والسياسي الذي يرزح تحته اللاجئون منذ عقود.
بين نزع السلاح
وغياب الإصلاح: المخيمات في مرمى المعادلة المجحفة
رغم المطالبات
المتكررة من الدولة اللبنانية والمجتمع الدولي بسحب السلاح من داخل المخيمات
الفلسطينية، لا يزال اللاجئ الفلسطيني في لبنان يعيش في ظل منظومة قانونية تقييدية
ومزدوجة المعايير، تحرمه من أبسط الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمدنية. فحتى
اليوم، يُمنع الفلسطيني من مزاولة أكثر من 36 مهنة بموجب قرارات وزارية غير منسجمة
مع الدستور اللبناني، ولا يمكنه التملك العقاري بسبب تعديل القانون 296/2001، كما
يُعامل قانونيا كأجنبي رغم انتمائه لمجتمع لاجئ مقيم قسرا منذ عام 1948.
ويعيش اللاجئون
في 12 مخيما رسميا معترفا بها من قبل
الأونروا، إضافة إلى أكثر من 50 تجمعا غير رسمي، تمتد من شمال
لبنان إلى جنوبه، في ظروف عمرانية واجتماعية قاسية. ويُقدّر عدد اللاجئين
الفلسطينيين في لبنان بنحو 210,000 لاجئ مسجلين لدى الأونروا حتى عام
2024، فيما تُقدّر تقارير لبنانية رسمية وغير رسمية أن الرقم الحقيقي يتراوح بين 150,000 إلى 180,000 لاجئ مقيم فعليا، بسبب
الهجرة والتهجير المستمر.
وفق أحدث تقارير
وكالة الأونروا (2023)، فإن أكثر من 63 في المئة من اللاجئين يعيشون تحت خط الفقر،
فيما تتجاوز نسبة البطالة بين الشباب 50 في المئة، في ظل غياب أي خطة وطنية
لبنانية شاملة تعالج أوضاعهم. كما أن المخيمات تُحرم من الحد الأدنى من الخدمات
البلدية، وتخضع لنظام قانوني غامض يقوم على "عدم تدخل الدولة"، ما
يجعلها عمليا مناطق مستثناة من سيادة القانون دون أن تُمنح حكما ذاتيا منظما.
وفي هذا السياق،
يصبح الحديث عن معالجة موضوع السلاح من المخيمات، دون أي إصلاح قانوني متوازٍ،
أشبه بإجراءات نزع الحماية دون بديل. فالسلاح، بالنسبة لكثيرين، لم يكن خيارا
ترفيا، بل نتيجة حتمية لسلسلة من الخذلان القانوني والسياسي، جعلت من المخيمات
فضاءات معزولة قانونيا، معرضة للهشاشة الأمنية، ومحرومة من أي ضمانات للعدالة أو
الكرامة الإنسانية.
اللجان وحدها لا
تصنع الحقوق
منذ عام 2005، شكّل لبنان أكثر من لجنة للحوار اللبناني-الفلسطيني،
أبرزها اللجنة التابعة لرئاسة الحكومة، المعروفة بـلجنة الحوار اللبناني-الفلسطيني،
والتي أعدّت على مدار سنوات سلسلة من الوثائق والرؤى الإصلاحية، أهمها وثيقة
"رؤية موحدة لقضايا اللجوء الفلسطيني" الصادرة عام 2017. وقد دعت هذه الوثيقة إلى إقرار الحقوق
المدنية والاجتماعية، وفتح سوق العمل أمام اللاجئين الفلسطينيين، وتحييد المخيمات
عن التوترات، وتوحيد المرجعية الرسمية في التعاطي مع الملف الفلسطيني.
تحميل اللاجئ الفلسطيني أو مخيمه أو سلاحه مسؤولية الانهيار، إنما هو تهرّب ناعم من مواجهة المشكلات البنيوية الحقيقية، ومحاولة لتحويل النقاش العام من ضرورة الإصلاح القانوني والسياسي إلى مجرّد معالجة أمنية ضيّقة
ورغم النَفَس
المؤسساتي الذي طبع عمل اللجنة، لم يُنفّذ من هذه المقترحات شيء فعلي، وبقيت حبيسة
الرفوف، نتيجة غياب الإرادة السياسية، وتوظيف الملف الفلسطيني في تجاذبات داخلية
وخارجية متكررة.
وفي المقابل،
استمر الخطاب الرسمي في تقزيم القضية الفلسطينية داخل لبنان إلى مسألة سلاح وأمن
فقط، متجاهلا السياق الأوسع المتمثل في التهميش القانوني والإنساني المزمن. وفي
هذا الإطار، يجري أحيانا التلميح إلى أن السلاح الفلسطيني أو وجود المخيمات يشكّل
عبئا على الدولة، أو أحد أسباب أزماتها المتفاقمة.
إلا أن الواقع
الاقتصادي والمالي يُبيّن بوضوح أن ما يمرّ به لبنان، من أزمات في القطاع المصرفي،
وتضخّم الدين العام، وانهيار سعر صرف الليرة، وضعف الأداء المؤسسي، هو نتيجة
تراكمات طويلة في السياسات العامة واختلالات هيكلية في الإدارة الاقتصادية، لا
علاقة لها بالسلاح الفلسطيني أو بواقع اللاجئين. هؤلاء، في الأساس، محرومون من حق
العمل والتملك والتغطية الاجتماعية، ولم يكونوا جزءا من الدورة الاقتصادية الوطنية.
وعليه، فإن تحميل
اللاجئ الفلسطيني أو مخيمه أو سلاحه مسؤولية الانهيار، إنما هو تهرّب ناعم من
مواجهة المشكلات البنيوية الحقيقية، ومحاولة لتحويل النقاش العام من ضرورة الإصلاح
القانوني والسياسي إلى مجرّد معالجة أمنية ضيّقة.
في المقابل، أظهر
التعاون المستمر بين الأجهزة الأمنية اللبنانية والفصائل الفلسطينية قدرة على
معالجة الكثير من التحديات الأمنية داخل المخيمات، ما جعلها أكثر استقرارا مقارنة
بفترات سابقة. لكن أي تضييق قد يعزز مشاعر عدم الثقة والتذمر، ويدفع نحو نتائج
عكسية. لذا، فإن المقاربة العقلانية التي توازن بين البُعدين الحقوقي والأمني تبقى
الخيار الأجدى لضمان المصلحة المشتركة والاستقرار العام.
بين ضبط السلاح
وتثبيت الحقوق: أي مقاربة عادلة للمخيمات؟
من دون شك، لا
يمكن لأي دولة أن ترضى بوجود سلاح خارج سلطتها، لكن "عدالة الدولة" لا
تُقاس فقط بقدرتها على نزع السلاح، بل بقدرتها على ضمان الحقوق لمن تُطالبهم بنزعه.
فكيف يُطلب من اللاجئ الفلسطيني التخلي عن سلاحه، بينما يُحرم من حق العمل،
والتملك، والتنقل، والتعليم، منذ أكثر من ستة سبعين عاما، في ظل قوانين استثنائية
لم تُراجع قط؟
إن المعالجة
الحقيقية لملف السلاح الفلسطيني في لبنان لا يمكن أن تنطلق من زاوية أمنية ضيقة أو
من خطاب سياسي ظرفي، بل تستدعي مقاربة شاملة ومتدرجة، تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد
القانونية والإنسانية والأمنية معا.
في هذا الإطار،
ينبغي أن تقوم هذه المقاربة على أربع ركائز أساسية:
1- إقرار قانون خاص باللاجئين الفلسطينيين،
يضمن كرامتهم وحقهم في العمل والتعليم والتملك، ويضع حدا للتمييز القائم منذ عقود.
2- إيجاد آلية رسمية مشتركة لبنانية-فلسطينية
تُعنى بتنظيم السلاح داخل المخيمات، بما يضمن ألا يتحول إلى عبء داخلي أو تهديد
خارجي، مع الحفاظ على الاستقرار والأمن المجتمعي.
نجاح أي خطوة من هذا النوع يقتضي حوارا مسؤولا وواقعيا، يُراعي هذه التحديات ويُبنى على الشراكة لا الفرض
3- التمييز بين السلاح الدفاعي المشروع داخل
المخيمات، وبين السلاح المنفلت أو المرتبط بأجندات خارجية، بما يحفظ كرامة
المخيمات ويمنع استغلالها في الصراعات.
4- ربط أي خطوة أمنية بتعهدات سياسية
وتشريعية ملزمة، تضمن عدم الاكتفاء بالإجراءات الأمنية، بل تواكبها خطوات إصلاحية
تضع حدا للحرمان القانوني والاجتماعي المستمر.
أكثر من ذلك، فإن
معالجة موضوع السلاح دون إطار سياسي وحقوقي واضح قد يُستغل لتسويق خطاب خطير يُوحي
بأن قضية اللجوء قد انتهت، أو أن المخيمات تحوّلت إلى مجرد أحياء سكنية هامشية بلا
طابع قانوني أو سياسي. وهذا التصوّر، إن تُرك دون تفنيد، قد يُستخدم لتبرير
التوطين المقنّع، وهو ما يتعارض مع المصلحة اللبنانية ذاتها التي لطالما شدّدت على
رفض التوطين والتمسك بحق العودة.
وأي قرار عملي
بشأن سحب السلاح الفلسطيني لا يمكن فصله عن تعقيدات الواقع الميداني داخل
المخيمات، من غياب سلطة موحدة وتعدد الفصائل، إلى تداخل الأمني بالاجتماعي. لذا،
فإن نجاح أي خطوة من هذا النوع يقتضي حوارا مسؤولا وواقعيا، يُراعي هذه التحديات
ويُبنى على الشراكة لا الفرض.
من هنا، فإن أي
خطوة في هذا الاتجاه ينبغي أن تكون مقترنة بتأكيد صريح على الصفة القانونية
للاجئين الفلسطينيين، وعلى أن المخيمات، رغم فقرها وهشاشتها، لا تزال شاهدا سياسيا
على جريمة لم تنتهِ بعد، ونكبة لم تُحل.