قضايا وآراء

ساويرس وكسر المحرمات حول الجيش المصري

"حاول ساويرس تحت وطأة الهجوم الإعلامي أن يلقي بالمسئولية على الصفحات الإخوانية في تحريف تصريحاته، رغم أن كلامه موجود صوتا وصورة"- إكس (أرشيفية)
تصريحات رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس وانتقاداته لتغول الجيش المصري في المجال الاقتصادي، ودعوته له للاهتمام بتطوير سلاحه، وترك المنافسة الاقتصادية في المشروعات المدنية للقطاع الخاص؛ كسرت بعض المحرمات في الحديث عن الجيش في مصر من أوساط لا يعرف عنها المعارضة السياسية للنظام الحاكم.

هذه التصريحات التي أدلى بها ساويرس على هامش زيارة له إلى جامعة هارفارد الأمريكية، والتي أهاجت الأذرع الإعلامية الداعمة للسلطة، ليست الأولى من نوعها فقد نقلتها عنه من قبل وكالة الأنباء الفرنسية (21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021) وسببت هياجا إعلاميا أيضا حينها، ولكنها جاءت هذه المرة في سياق مختلف مع تصاعد التوتر على حدود مصر الشرقية مع الكيان الصهيوني، وكذا التهاب الأوضاع في السودان جنوبا، ومع مساعٍ وتحركات داخلية لصناعة حالة اصطفاف وطني خلف المؤسسة العسكرية. كما أنها جاءت لتنكأ الجرح مجددا بعد أن ظنت السلطات الحاكمة أنها نجحت في تجاوز أثار تصريحات ساويرس السابقة قبل 4 سنوات، وربما ضغط ساويرس أكثر على الجرح هذه المرة حين دعا الجيش للتركيز على الصناعات الحربية وتطوير منتجات عسكرية محلية تمكنه من مواجهة أي ضغوط محتملة من ترامب أو غيره؛ أسوة بتركيا التي أصبحت أحد أكبر مصدري السلاح في العالم، بدلا من تركيزه على الجمبري والمزارع والبسكويت، وهو النقد الذي أصبح دارجا على ألسنة المواطنين، ويظهر في صفحات التواصل الاجتماعي.

الجيش كما قال ساويرس يقيم مشروعات بأقل تكلفة، حيث يملك الأراضي مجانا، ولا يدفع رواتب طبيعية لمجنديه، ولا يدفع ضرائب ولا جمارك، ولا تكلفة الكهرباء والمياه.. الخ، وبالتالي من الطبيعي أن يكون منتجه أقل كلفة من غيره، ومنافسة غير عادلة، يعتبرها ساويرس خطأ استراتيجيا يعيق جذب الاستثمارات

لا ينطلق ساويرس في انتقاداته للجيش من خلفيات طائفية، بل من موقعه كأحد أكبر رجال الأعمال في مصر (يتم تصنيفه كثاني أكبر ملياردير في مصر بعد شقيقه ناصف ساويرس)، ولديه مشروعات متنوعة بين الاتصالات والصناعة والعقارات والبنية التحتية.. الخ، ويعتبر نفسه معبرا عن القطاع الخاص المتضرر الرئيس من تغول الجيش على الاقتصاد ومنافسته غير العادلة، فالجيش كما قال ساويرس يقيم مشروعات بأقل تكلفة، حيث يملك الأراضي مجانا، ولا يدفع رواتب طبيعية لمجنديه، ولا يدفع ضرائب ولا جمارك، ولا تكلفة الكهرباء والمياه.. الخ، وبالتالي من الطبيعي أن يكون منتجه أقل كلفة من غيره، ومنافسة غير عادلة، يعتبرها ساويرس خطأ استراتيجيا يعيق جذب الاستثمارات.

يحكم الجيش عمليا مصر سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، منذ إطاحته للنظام الملكي في العام1952، وتعرضت سمعته للاهتزاز بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967، لكنه استعاد احترام الشعب عقب انتصاره في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وأصبح من التابوهات التي يمنع انتقادها، وقد عزز الجيش ذلك بمنظومة تشريعية تمنع هذا النقد، وتحيل صاحبه للقضاء العسكري، كما تمنع مناقشة ميزانية الجيش في البرلمان أو الإعلام، أو مناقشة أي شأن يخص القوات المسلحة بشكل عام. وعاد الجيش ليكون محلا للخلاف بين المصريين عقب انقلابه على الرئيس مرسي، ثم مشاركته في فض اعتصام رابعة وما ترتب على ذلك من سقوط دماء مصريين.

ومع تغول الجيش على الاقتصاد المدني تذمر رجال الأعمال لكنهم لم يستطيعوا التعبير عن هذا التذمر، خاصة أن السيسي لاحقهم بالفعل، وأجبرهم على التنازل عما يمتلكونه من قنوات فضائية وصحف ومواقع إخبارية، ناهيك عن فرضه أتاوات عليهم لصالح صناديقه التي أنشأها مثل صندوق تحيا مصر والتي لا تخضع لأي رقابة مؤسسية من الجهاز المركزي للمحاسبات أو البرلمان، وحده ساويرس الذي تمكن من التعبير عن هذا التذمر نظرا لما يتمتع به من حماية دولية تمنع المس به، ونظرا لما يمتلكه من تأثير اقتصادي كبير حال قرر نقل استثماراته جميعها من مصر (نقل بعضها فعلا، وقد شجع ذلك غيره على نقل بعض استثماراتهم من مصر بسبب غياب المنافسة العادلة، وتعرضهم للابتزاز المستمر من السلطة).

ورغم أن ساويرس نفسه دفع ثمنا لمواقفه تمثل في طرده من حزب المصريين الأحرار الذي بناه ورعاه، وحل ثانيا في الانتخابات التشريعية في العام 2015، وكذا إجباره على التنازل عن شبكة قنوات "أون تي في" التي كان يملكها لشركة تابعة للمخابرات المصرية، إلا أنه نجح في امتصاص هذه الضربات، وعاد لتوجيه انتقاداته للمؤسسة العسكرية مجددا.

انتقادات ساويرس كما ذكرنا تتركز على التغول الاقتصادي للجيش فقط، وليس على دوره السياسي، وهو يعتبر أن هذه الانتقادات لصالح الجيش وليست ضده، فهو يريد جيشا قويا وطنيا، تنحصر مهمته في الدفاع عن البلاد وليس مزاحمة القطاعات المدنية في النشاط الاقتصادي. وقد حاول ساويرس تحت وطأة الهجوم الإعلامي أن يلقي بالمسئولية على الصفحات الإخوانية في تحريف تصريحاته، رغم أن كلامه موجود صوتا وصورة عبر فيديو لا يزال متداولا، متضمنا كل الانتقادات التي ذكرناها، ورغم أنه وجه هذه الانتقادات ذاتها من قبل أكثر من مرة.

المحاولة الوحيدة لمعرفة حجم الاقتصاد العسكري وإخضاعه للنقاش العام على الأقل كانت عقب ثورة 25 يناير (2011)، التي حطمت التابوهات التقليدية المفروضة على المؤسسة العسكرية، وتنافست وسائل الإعلام في مناقشة القضايا التي تخص المؤسسة على خلاف ما كان سائدا من قبل، ولكن المجلس العسكري الانتقالي والذي صبر لبعض الوقت في ظل موجة ثورية مفاجئة لم يستطع الصبر طويلا، فأخرج أحد أعضائه (مدير الشئون المالية للقوات المسلحة اللواء محمود نصر في 27 آذار/ مارس2012) ليعلنها بكل فجاجة أن اقتصاد الجيش خط أحمر، قائلا: "سنقاتل على مشروعاتنا وهذه معركة لن نتركها. العرق الذي بذلناه 30 سنة لن نتركه لأحد آخر يدمره، ولن نسمح للغير أيا كان بالاقتراب من مشروعات القوات المسلحة".

حتى يستعيد الجيش المصري مركزه المتقدم فإنه بحاجة للتركيز في مهمته الوطنية العسكرية، والتركيز على إنتاج سلاح وطني بدلا من مزاحمة القطاع الخاص في الأنشطة المدنية

لم يقترب مبارك خلال موجة الخصخصة الكبرى في التسعينات من شركات الجيش، ونمت هذه الشركات بصورة كبيرة عقب الثالث من تموز/ يوليو 2013 في إطار تقاسم النفوذ بين السيسي والمؤسسة العسكرية، وضمان استمرار دعمها له، حتى أنها قبلت تنازله عن جزيرتي تيران وصنافير اللتين كانتا أحد أسباب حرب 1967، وعليهما سالت دماء شهداء للجيش.

ولكن السيسي اضطر مؤخرا تحت ضغوط قوية من صندوق النقد الدولي لطرح بعض شركات الجيش للبيع، وهو ما لم يتم فعليا حتى الآن؛ لإحجام المستثمرين بسبب افتقاد هذه الشركات لدفاتر حسابية، وقوائم مالية شفافة، كما يبدو أن هناك عرقلة للبيع من داخل المؤسسة العسكرية نفسها.

ليس هناك عاقل يتمنى انهيار الجيش المصري أو تراجع قوته، فالجيش القوي هو مصدر اطمئنان للمواطنين؛ شريطة أن يوجه قوته للأعداء وليس لشعبه. وقد تنافس الجيش المصري على مراكز متقدمة في مؤشر جلوبال فاير بور خلال السنوات الماضية، وكان منافسا للجيش التركي على المركزين التاسع والعاشر، ولكنه تراجع مؤخرا على المؤشر ذاته إلى المركز 19 عالميا في تصنيف العام 2025 بينما احتل الجيش التركي المركز التاسع عالميا، والجيش الإسرائيلي المركز 15 عالميا. والإيراني 16 عالميا. وحتى يستعيد الجيش المصري مركزه المتقدم فإنه بحاجة للتركيز في مهمته الوطنية العسكرية، والتركيز على إنتاج سلاح وطني بدلا من مزاحمة القطاع الخاص في الأنشطة المدنية.

x.com/kotbelaraby