مدونات

التسامح سلوك للتعايش

"العيش المشترك هو الحياة الطبيعية"- جيتي
ما هو التسامح؟

عندما يُرتكب ضدك أمر أو تنزعج من سلوك، أو تعرضك لاعتداء وأنت قادر على الرد عليه، فهو تسامحك وهذا المخالف، لكن هذا لا يعني أنك راض عنه، أو أن هنالك مشروع صداقة مع من خانك وتسامحت معه بإغفال فعله وما سببه من أثر، سواء أزيل أو لم يزل الأثر، وغالبا لا يزول هذا الأثر بمعنى يبقى الخلاف وأسبابه، لكن يتم التغاضي عنه.

وهنا الخط الفاصل بين العفو والتسامح والصفح، فالصفح أعلى رتب العيش المشترك، والعفو هو حجب الأثر والعقاب، والتسامح ليس مصطلحا فكريا عقليا، وإنما سلوك نفسي حمال أوجه؛ أغلبه القبول بلا مطابقة ويحتمل استمرار القطيعة لكن بلا أثر، وهذا يعني مساحة من إلغاء الماضي وما ترتب على العلاقات السابقة كافة إلى مجرد التغافل والرغبة بالنسيان، وله أجر الصبر ومصنف كقيمة أخلاقية في الإسلام وعبادة عظيمة.

وللزمان وثقافة المجتمع الفاعلة في التطبيق تعريف؛ فقد يعد تصرفك ضعفا ويشجع الذي تسامحت معه ليقوم بسلبية أكبر، وهنا دور الإفهام والإعلام وإحاطة المقربين علما، مهم لتفادي شطط لا يتوقف غالبا عن الأذى.

الصفح أعلى رتب العيش المشترك، والعفو هو حجب الأثر والعقاب، والتسامح ليس مصطلحا فكريا عقليا، وإنما سلوك نفسي حمال أوجه؛ أغلبه القبول بلا مطابقة، ويحتمل استمرار القطيعة لكن بلا أثر، وهذا يعني مساحة من إلغاء الماضي وما ترتب على العلاقات السابقة كافة.

هل الإسلام دعا للتسامح؟

قال ﷺ: ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا. فالعفو كله خير: "وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" (البقرة: 237). الحقيقة أن الإسلام ذكر مضمون التسامح كقيمة عظمى، رغم أنها أقل أنواع العفو في التعامل: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" (فصلت: 34)، ودعا إلى المغفرة والعفو والصفح. والمغفرة تتجاوز الحدث إلى مسح الحدث وما سبقه، وهي الصفح الجميل: "فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ" (الحجر: 85)، الصفح الذي لا يترك أثرا للسلبية بالغفران، "وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (التغابن: 14). وهذا محبب في التعاملات بين الناس عند انتباههم إلى ظلمهم والإنابة وطلب رد ما فعلوا من سوء بالحسنى: "فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" (الشورى: 40-43). هذا أمر غير محدود من التعويض والأجر، إنه التفكير والقرار الصائب.

يذكر دوما التسامح بين الأديان وهذا خطأ كبير إن لم أصفه بالشنيع، فمن وجهة نظر الإسلام أن المنظومة العقلية لها كامل الأهلية في خياراتها، وهي مسؤولة عن العزيمة في التفكير ثم الإرادة في التنفيد، وليس لمن يحمل عقيدة أن يحاسب الآخر على معتقده، إلا إذا أضر بالمجتمع واعتدى على الأمن العام والسلامة في المجتمع، فما هي الضرورة لأسامح شخصا لأنه يعتقد معتقدا آخر وأنا لست متضررا منه أو استبد بحقوقي، وإنما مجرد له عقيدة مخالفة ولا يعتدي بها عليّ؟ هنا ليس التسامح بالكلمة المناسبة ولا كلمة التعايش تلائم الدقة في الوصف والإنسانية وإنما العيش المشترك، وهو الحياة الطبيعية التي يحميها الإسلام للكل في الضروريات الخمس المعروفة، وهي: الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وهذا عند قيام دولة تعمل بالفكر الإسلامي، فهي ضامنة لمواطنيها هذه الحقوق والتمكين لهم بالعيش بعضهم مع بعض، والحقيقة أن هذا ليس تناغما مع الليبرالية التي هي ليست مفهوما فكريا، وإنما آلية مدنية ضمن مجموعة الآليات الحامية المثبتة للرأسمالية، فالدولة الحديثة تتبنى هذه الآليات لحماية رأس المال وسيادتها، هي لا ترتكز على الأخلاق، وإنما هنالك قيمة فاعلة هي النفعية، لذا نرى ألا خجل في التصريح بما هو ضد الدين.

العيش المشترك:
التسامح الذي يتحدث عنه من ينقصهم النضج مهما علت مراتبهم، إنما هو نوع من الاستسلام والتخلي، وتأكيد لهزيمة جيل سابق أمام الانبهار بمدنية ثبت أنها ليست متسامحة فعلا عند بروز التنوع؛ وإنما تريد من الآخر أن يكون مثلها أو يفهم عقيدته مثلها، لكي ينجح اندماجه في مجتمعها، وهذا ما لم يفعله الإسلام.

المسلمون الفاهمون لدينهم يفعلون ما نصحوا به، ويطورون وسائل الحياة ويهذبون مشاعرهم ويضبطون عواطفهم. عندما يقولون بالمحبة فهي حب الله الذي يشع منه كل حب، حتى لعدوك عندما يصبح عاجزا عن إيذائك، أو تمكنت منه حيا فأسرته وأنت دولة. الثقافة المنبعثة من العقيدة يعبر عنها سلوك السلطة، ففي الوقت الذي برز الأسرى عند القسام على ما رأينا، يودع الكيان الأسرى بجولة تعذيب، وبدل شهادة الحرية التي تمنحها حماس حفاظا على حقوقهم من النسيان، يضع الكيان أسورة شريطية كتب عليها "الشعب الأبدي لا ينسى.. أطارد أعدائي وأمسك بهم". هنا نرى حالة تسامح قلقة ومحدودة، وهي منهج سياسة لا يبنى عليها أكثر من حدثها، ولحل القضية تحتاج إلى التعايش، وهو ممكن كخطوه نحو العيش المشترك.

إن التسامح الذي يتحدث عنه من ينقصهم النضج مهما علت مراتبهم، إنما هو نوع من الاستسلام والتخلي، وتأكيد لهزيمة جيل سابق أمام الانبهار بمدنية ثبت أنها ليست متسامحة فعلا عند بروز التنوع؛ وإنما تريد من الآخر أن يكون مثلها أو يفهم عقيدته مثلها، لكي ينجح اندماجه في مجتمعها، وهذا ما لم يفعله الإسلام عبر العصور وبمتعدد الأفهام، فقد حسم الأمر لكم "دينكم ولي دين"، أي لكم طريقكم ولي طريقي، هذا قبول دون طلب تغيير الآخر، وإنما العيش معا من أجل إدامة السلالة وعمارة الأرض، ولكل أمة قوانينها وطرقها في منهجها، تتفاهم عليها سواء كتابة بدستور أو عرفا.

الخلاصة أني أسامح أحدا إن أضر بي وأنا لست متنازلا عن حق، لكن أعطيه فرصة لتعديل وضعه، أو التعامل معه دون غفران لما اقترف ضدي، وهذا موجود في التعاملات العامة بين الدول والأفراد، أما العفو والصفح والمغفرة فهي ليست تسامحا، وإنما هي درجات لقيمة أخلاقية اسمها العيش المشترك، وهي محو أو نية بمحو أي أثر، غير أن الذاكرة قد تستعيد هذا إن حيد العقل لحظة استثارة الغريزة بوجود التحفيز لمؤثرات، وهذا ما يسمى الفتنة التي يمكن أن تحدث بعد التقادم ونسيان الموجبات للتفاهم، وهنا تتحول إلى تسامح ثم إلى استعادة مجسمة للظلم، وهذا يمكن أن يشعل الفتنة كما تجري محاولات اليوم لإشعالها في جنوب أفريقيا بخبث وانتقام لمواقف سياسية، وهي تستغل بطء ما اتفق عليه في العدالة الانتقالية، أو تستنهض في رواندا إن أريد إشعال الفتنة مثلا، كما أشعلت في مناطقنا بغياب الفهم والعقلانية وباستثارة اإحدى الغرائز، كالتدين والتملك وحب السيادة وغيرها، أو استثارتها جميعا ليكون فسادا شاملا وخرابا بلا إعمار.