قضايا وآراء

هل يستطيع العلم المعاصر قياس الفقر؟

"تغيرت منظورات العالم لمفهوم التنمية وآفة الفقر، وأصبح الفقراء لا يحدَدون من منطلق ما يعانون من عوز مادي فحسب"- الأناضول
حظي موضوع الفقر أكثر من غيره من الموضوعات باهتمام متزايد خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين وسنوات الألفية الثالثة، ويمكن الجزم بأنه مثل أبرز الملفات التي استعصى حلُها، على الرغم من الاهتمام المنتظم للدول والحكومات بالظاهرة، تفكيرا، وتخطيطا وممارسة. والواقع أن الفقر من الآفات التي طبعت تاريخ البشرية، وعبرت عن جوانب العتمة في العلاقات الاجتماعية، غير أنه، في المقابل، أصبح خلال الربع الأخير من القرن العشرين موضوعا قابلا للتحليل العلمي، كما دلت على ذلك وفرةُ الأدبيات التي أغنت مختلف مجالات الفكر الاجتماعي الحديث.

فهكذا، نميل إلى الظن بأن تزايد وعي الناس بخطورة الفقر وتداعياته، وإدراك قيمة العدالة الاجتماعية في تأكيد تلاحم المجتمعات، وحماية وحدتها الوطنية والسياسية، وتكاثر موجات الاحتجاج على اتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، كلها عوامل أسهمت في تصدر موضوع الفقر دائرة الاهتمام الدولي والوطني. وقد كان طبيعيا تخصيص الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة مكانة بارزة لموضوع الفقر، وحثت أعضاءها على صوغ سياسات عمومية تروم التخفيف من أضرار التفاوت وعدم التكافؤ في أفق ردم الهوة بين مكونات المجتمع الواحد، وتكفي الإشارة إلى انتظامية إصدار تقارير التنمية البشرية منذ العام 1990 من قبل "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" (UNDP).

شهدت السنوات الثلاثون الأخيرة من القرن العشرين ومستهل الألفية الجديدة، فيضا من الأدبيات في أكثر الدول تقدما في العالم، ركزت في مجملها على "براديغم" (Paradugme) توزيع الدخل لتحليل مسببات الفقر وآليات تجاوزه، والحال أن هذه المنهجية ظلت مُغرية إلى وقت قريب، غير أن الممارسة بينت عدم صلاحيتها المطلقة في الكشف عن طبيعة الفقر، من حيث هو آفة اجتماعية مهددة للأمن والسلم والتلاحم الوطني

فمن اللافت للانتباه أن دولا صغيرة الحجم مثل فنلندا، والسويد، والنرويج، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، أو متوسطة نسبيا مثل ماليزيا وإندونيسيا، حققت قفزات نوعية في سلم التنمية وقهر الفقر، بالاعتماد على الإنسان وقدراته الخلّاقة، حيث استثمرت في صقل مهاراته بالتربية والتعليم والتكوين الجيد، ووفرت له شروط الارتقاء والعطاء والاجتهاد، وبثت في روحه قيمة العدالة الاجتماعية والإحساس بعدم التفاوت والتكافؤ بين بني جلدته. وبالموازاة، نرى بلدانا أكثر أهمية من حيث الموارد المادية والبشرية، ومع ذلك تحظى بمراتب متدنية أو متواضعة، استنادا إلى الدراسات المسحية التي شكلت أكثر من قطر عربي في مجالات ذات قيمة محورية بالنسبة للتنمية، كالمعرفة والحرية وتمكين المرأة، وهو ما أبانته وكشفته بجلاء تقارير التنمية الإنسانية العربية الصادرة ما بين 2002 و2005.

ففي سياق السعي إلى مقاربة ظاهرة الفقر علميا، وفهم مصادرها الموضوعية، شهدت السنوات الثلاثون الأخيرة من القرن العشرين ومستهل الألفية الجديدة، فيضا من الأدبيات في أكثر الدول تقدما في العالم، ركزت في مجملها على "براديغم" (Paradugme) توزيع الدخل لتحليل مسببات الفقر وآليات تجاوزه، والحال أن هذه المنهجية ظلت مُغرية إلى وقت قريب، غير أن الممارسة بينت عدم صلاحيتها المطلقة في الكشف عن طبيعة الفقر، من حيث هو آفة اجتماعية مهددة للأمن والسلم والتلاحم الوطني.. فهكذا، لعب تغير البيئة السياسية في دول وسط وشرق أوروبا بعد العام 1989، وتوسع الفضاء الأوروبي، دورا مفصليا في تطوير أسس مقاربة الفقر، حيث أصبح مفهوم الفقر محددا من منظور الإقصاء الاجتماعي (Exclusion sociale)، ويشمل أكثر معايير الفقر والتفاوتات التقليدية القائمة على الدخل لوحده.

توسيع دائرة النظر إلى الفقر، باعتباره نقيضا للرفاه، وتعداد المؤشرات ذات الصلة بكرامة الإنسان في قياس مراتب التنمية ودرجاتها، لذلك، ومنذ ظهور أعماله الرائدة ذات الصلة، تغيرت منظورات العالم لمفهوم التنمية وآفة الفقر، وأصبح الفقراء لا يحدَدون من منطلق ما يعانون من عوز مادي فحسب، بل مما يعيشون من شنك وعسر في قدرتهم على المشاركة في تدبير شؤونهم بقدر متكافئ وشفاف ومسؤول

تنهض المقاربة الجديدة لظاهرة الفقر على مصفوفة من المعايير والمؤشرات التي تصلح قاعدة للمعالجة والتحليل، وتساعد أكثر من ذلك، على جعل الفقر معطى موضوعيا قابلا للقياس. فوفق هذه المقاربة متعددة الأبعاد، لا يعني الفقر مجرد الافتقار إلى ما يكفي من المال، ولا يعني فيها التفاوت مجرد اختلاف في الدخل المادي. فعلى سبيل المثال، شهدت دول الاتحاد الأوروبي نقاشا مستفيضا حول "الإقصاء الاجتماعي"، قبل أن تهتدي إلى التوافق حول فحص الفقر من منظور الحرمان من عدد من البضائع أو الخدمات، لا من منظور نقص الدخل في حد ذاته، ما ساعد على صياغة مجموعة من المؤشرات، عوض الاقتصار على "براديغم" توزيع الدخل، وما تترتب عنه من الإسقاطات والآثار. والأكثر من ذلك، فتحت المقاربة المتعددة فرصا نوعية لمراجعة المفاهيم الأصولية للفقر والتفاوت، وتم التشجيع عليها في أعمال "أمارتيا سن"، الحائز على جائزة نوبل، وفي صدارتها تلازم "التنمية والحرية"، وضرورة الربط بين التنمية والقدرة على المشاركة بمختلف أنواعها ومستوياتها، وهو ما أوضحه بقوله: "الاهتمام بالحريات الإيجابية يؤدي مباشرة إلى تثمين قدرات الأشخاص، وتثمين ما من شأنها تنمية هذه القدرات، وترتبط بفكرة القدرات ارتباطا وثيقا بأداء الشخص، وهذا يتناقض مع ملكية البضائع وصفات البضائع المملوكة، وما يتولد عنها من نفع..".

إن روح منهجية "أمارتيا سن" في تأصيل مفهوم التنمية تكمن في قدرتها على توسيع دائرة النظر إلى الفقر، باعتباره نقيضا للرفاه، وتعداد المؤشرات ذات الصلة بكرامة الإنسان في قياس مراتب التنمية ودرجاتها، لذلك، ومنذ ظهور أعماله الرائدة ذات الصلة، تغيرت منظورات العالم لمفهوم التنمية وآفة الفقر، وأصبح الفقراء لا يحدَدون من منطلق ما يعانون من عوز مادي فحسب، بل مما يعيشون من شنك وعسر في قدرتهم على المشاركة في تدبير شؤونهم بقدر متكافئ وشفاف ومسؤول، سواء في توزيع الثروة والاستفادة من الخيرات، أو في التداول على السلطة والتعاقب على ممارستها.