قضايا وآراء

لذا لزم التنويه: مفتاح العودة ومجلّة ميكي (2-8)

"السجن صراع سيطرة، لا على حركتك وأثرك وحدهما، إنّما على توازنك وأفكارك وهواجسك وأحلامك وكوابيسك، وعلى ذهنك قبل كلّ شيء"- جيتي
في سنة بعيدة، أحضروا عشرات المعتقلين في قضيّة فضّ اعتصام رابعة إلى معتقل طرة تحقيق الذي كنت فيه، وكان بينهم محكومون بالإعدام، التقيتُ بعضهم اختلاسا وتحايلا، وتناقشنا بأعجب ما تكون سبل النقاش، كانوا ممنوعين من كلّ حقٍّ تنصّ عليه لوائح السجن وقوانينه -كغالب المعتقلين من كلّ التيارات-، كنت أحاول تهريب طعام وملابس وأغطية وأدوية لهم ما استطعت، وحين سألتُ أحدهم عن شيء يحبّ أن يحصل عليه بعيدا عن لوازم الحياة، قال: مجلّة ميكي.

طلبتها من إدارة السجن فرفضوا، وحاولتُ إدخالها في الزيارات فمنعوها، فدخلتُ إضرابا عن الطعام لأحصل عليها حتى سمحوا بالاشتراك فيها، كما ينصّ قانون السجون، وأصبحت تأتيني كل أسبوع، فأهرّبها لهذا الصديق الذي يمرّرها لرفاقه.

ظلّ يحكي لشهور عن هذا الانتصار وسعادته به، حتى تمّ ترحيلهم من المعتقل إلى غيره.

* * *

مررتُ بأحوال الإيراد كلّها، بدءا من حفلة "الاستقبال" تعذيبا بين صفّينِ من المخبرين بأكفّهم وأرجلهم أو عصيّهم، إلى معتاد الحال تجريدا ومصادرة لكلّ شيء (ملابس، طعام، كتب، دواء، صور، أدوات نظافة، وحتى كتب وملازم الجامعة المصرّح بها من النيابة العامة)، ثم حرقها أمامي في ساحة السجن.

لم تعد الأقفالُ موجودة، ولا الأبواب التي كانت عليها، ولا حتى البيوت التي حرستها، لم يعد الوطن على صورته التي كان عليها قبل سبعين عاما أو يزيد، لكنّ الفلسطينيّين ما زالوا يعلّقون مفاتيح دورهم في رقابهم، وعلى صدورهم، وفي صدر كلّ منزل سكنوه -مؤقّتا- إلى أن يعودوا.

ليس إنكارا للهزيمة التي وقعت، والاحتلال الذي استولى، والمستوطنات التي قامت، إنّما على عكس ما يبدو للوهلة الأولى، إنّما هو اعترافٌ بها بعد استيعاب حقيقة أثرها وامتداداته، لكنّه في الوقت ذاته مقاومة لها، في ذهن حامل المفتاح وروحه، فقد كلّ شيء، وتوفّرت غالب مبررات السقوط وتمكّن الهزيمة منه، لكنّه تشبّث بهذا المفتاح، الذي سمّاه مفتاح العودة، واستند عليه كي يمنع سقوطه.

* * *

على عتبة المعتقل -ليمان طرة- داخلا لجحيمه الذي سبق وجرّبته، منهكا من إعادة الرحلة السيزيفيّة حاملا صخرة عمري وحلمي إلى القمّة، كانت أولى المعارك، على حِذائي وملابسي (طلبوا مني خلعها والبقاء حافيا، وتمسّكتُ بهما رفضا للإهانة، ومبادلة لهم عمليّة ترسيم الحدود السجنيّة التي تبدأ مع دخول الإيراد، وتجرّد فيها من كل الحقوق بلا استثناء، إلا ما تنتزعه بمعاركك إن استطعت، أو ما يتفضل به عليك سجّانك مقابلا رخيصا لرضوخك واستخدامِك).

وقد مررتُ بأحوال الإيراد كلّها، بدءا من حفلة "الاستقبال" تعذيبا بين صفّينِ من المخبرين بأكفّهم وأرجلهم أو عصيّهم -كما في أحد مشاهد فيلم البريء-، إلى معتاد الحال تجريدا ومصادرة لكلّ شيء (ملابس، طعام، كتب، دواء، صور، أدوات نظافة، وحتى كتب وملازم الجامعة المصرّح بها من النيابة العامة)، ثم حرقها أمامي في ساحة السجن، وغير ذلك من أحوال وصور دخول السجن في كلّ مرّة، التي يعانيها المعتقلون كلّهم دون تمييز، إلا القليل منهم.

لطالما سخر سجّانون ورفاق من معارك حول حقوق رئيسة (كالراديو والتلفاز والصور والملابس وإطالة الشعر، مثلا) أو حقوق أخرى (كفنجان القهوة أو مجلّة ميكي)؛ خضتُ لأجلها ذات المعارك حتى نهايتها، بما في ذلك الإضراب عن الطعام، وتلقّيتُ العقوبات ضربا ونقلا لعنبر التأديب أو تجريدا أو منعا من الزيارة والتريّض وغيرها من العقوبات السجنيّة.

ولطالما استمرّ خوضي هذا النوع من المعارك، حتى يوم خروجي من المعتقل بعد عشر سنين، لم أرَ الأمر نضالا في مواجهة السجّان، وإن كان كذلك في حقيقته وإن لم يُقصد، ولا أردتُ منه إلهام أحد أو حتى تقديم صورة تحريضيّة، إنّما فقط أردتُ أن أستند إلى شيء يمنع سقوطي، بعد أن أفقدني السجّان بإلحاح وحسم واستدامة محشوّين بالانتقام والجنون والسيطرة على كلّ شيء في حياتي ومحيطي وحتى جسدي.

إذا كانت المعارك الكبرى غير متوقّع كسبها وأنت مقيّد -حتى هذه ليست قاعدة؛ جرّبتُ خوضها مرارا، وكسبتُ شيئا منها-، مع الوقت ستشعر بفقد السيطرة مطلقا، وسينهارُ ذهنك دفعة واحدة، وستسقط معه حتما (جسدا أو نفسا، وسلوكا).

السجن صراع سيطرة، لا على حركتك وأثرك وحدهما، إنّما على توازنك وأفكارك وهواجسك وأحلامك وكوابيسك، وعلى ذهنك قبل كلّ شيء، ولكلِّ صراع طرفان، السجّان هنا أحدهما (حامل مفتاح الزنزانة وحامل مفتاح القصر وطابور السجّانين بينهما)، ولا قواعد حاكمة، لا قانون ولا عُرف ولا ضمير ولا رقابة ومحاسبة، لا يبقى في الداخل سوى تضامن الصّحبِ، وذاتك، وعليك أن تنخرطَ في الصراع الذي قُسرتَ عليه، أو الاستسلام فيه، إذ لا فرصة لتجنّبه أو تجاهله أو الانسحاب منه.

وإذا كانت المعارك الكبرى غير متوقّع كسبها وأنت مقيّد -حتى هذه ليست قاعدة؛ جرّبتُ خوضها مرارا، وكسبتُ شيئا منها- مع الوقت ستشعر بفقد السيطرة مطلقا، وسينهارُ ذهنك دفعة واحدة، وستسقط معه حتما (جسدا أو نفسا، وسلوكا)، ولعلّ واحدة من سبل المقاومة المجرّبة في هذا السياق، التشبّث بالمعارك "الصغيرة" -إن صحّت التسمية-، ومن ثم انتصاراتها الصغيرة التي ستمنحك شيئا من السيطرة على ذاتك، وهو ما لا استغناء عنه حتى تستطيع استكمال الطريق والدخول في جولات أخرى من المعارك الكبرى، وقبلها البقاء على قيد الحياة أصلا.

في لحظة الهزيمة وتبعاتها، يحدث أن تبحث عن تجلٍّ آخر، غير أحلامك الكبرى، أكثر ماديّة -ربّما- وقابليّة للتحقق لتتشبّث به، وتستند عليه استنادة ما قبل السقوط، وستجده حتما حولك، قريبا منك، أو حتى في ذاتك. ثق في ذلك تماما.