يختلف منطق التاريخ وسيرورته عن المنطق
الأخلاقي وأحكامه المعيارية، فبين الاثنين هوة كبيرة جدا: يخضع الأول إلى دينامية
معقدة بتعقد الفعل الإنساني أفرادا وجماعات ودولا، لا يوجد في منطق التاريخ
ودينامياته أحكاما إنسانية، بل وصفا وتحليلا للحوادث، بينما يخضع الثاني إلى إضفاء
موقف إنساني من أحداث واقعية، وهو بذلك يقدم رؤية فكرية مفارقة للواقع، بمعنى أنها
تقدم حكما عقليا وأخلاقيا ذاتيا ليس ناجما عن معطيات إمبريقية مباشرة، إنه منفصل
عنها من حيث العلاقة السببية، ولذلك تختلف الأحكام الأخلاقية من فرد إلى آخر.
من خلال هاتين الرؤيتين المتعارضتين يمكن
النظر إلى أحداث الساحل السوري الأسبوع الماضي وتداعياتها السياسية داخل
سوريا.
المنطق الأخلاقي
وفق المنطق الأخلاقي وأحكامه المعيارية، ما
جرى في الساحل السوري من عمليات ثأر أدت إلى مقتل مئات العلويين معظمهم مدنين
أبرياء ـ كرد فعل على الكمين الذي قامت به مجموعة من فلول نظام الأسد وأسفر عن
مقتل نحو مئة عنصر من الأمن العام ـ هو فعل مرذول ومرفوض، فلا يُعقل أن يُقتل
الأشخاص على أساس هُوياتي، وليس على أساس فعل ارتكبوه.
شكلت أحداث الساحل وستشكل، على الرغم من مأساويتها، تحولا مهما في الساحة السياسية السورية، برزت مفاعليها في سلوك الأقليات والأكثرية معا على السواء، وكانت مضامينها ما يُشبه الاتفاق المُضمر: توافق الأقليات على الاندماج في النظام السياسي الجديد مقابل الحصول على ضمانات سياسية وعسكرية وثقافية.
ما جرى في الساحل السوري هو جريمة مكتملة
الأركان، سواء أكان وراؤها عناصر من الأمن العام، أو فصائل منفلتة، أو أشخاص
عاديين غاضبين، يتحينون الفرصة للثأر الشخصي.
من ناحية الأخلاق السياسية، ما جرى يضع
إدارة الحكم الجديدة في موضع متساوي مع جرائم نظام الأسد، على الأقل في المخيلة
السياسية للعلويين، والمخيال الاجتماعي والسياسي مجال تسوده القناعة وليس مجالا
تسوده المعرفة، بمعنى ما جرى في الساحل سيعزز المخيال العلوي تجاه السُنة، وهو
المخيال الذي اشتغل عله الأسد الأب والابن معا من خلال غرز سردية في الوعي الجمعي
العلوي مفادها أن السُنة ما يتسلموا السلطة سيقضون على الطائفة، ويعيدوها إلى
مألوف عيشها قبل قرون حين كانت تعيش فيما يشبه الغيتو اليهودي في أوروبا.
وبهذا المعنى، ساهمت أحداث الساحل في تعزيز
الانقسام الهوياتي بين السُنة والعلويين من جهة، والسُنة وباقي الأقليات من جهة
أخرى، وهذا ما ليس من مصلحة أحد، خصوصا الإدارة الحاكمة في سوريا، المطالبة بأكثر
مما هو مطلوب من باقي مكونات الشعب السوري: أولا لأنها في الحكم، فالمطلوب من
الحكام أكثر بكثير مما هو مطلوب من المواطنين افرادا وجماعات، وثانيا لأن الإدارة
الحاكمة تنتمي إلى الأغلبية السُنية، والأكثرية أيضا مطالبة في الحالة السورية
تحديدا بتقديم خطاب وسلوك جامع لكل السوريين، لا سيما العلويين.
المنطق التاريخي
وفق منطق التاريخ تبدو النتائج مختلفة تماما
عن نتائج المنطق الأخلاقي: هنا حيث تخضع سيرورة التاريخ للفاعل الأقوى، بمعنى أن
جوهر حركة التاريخ تقوم على معادلة القوي والضعيف.
ما جرى في الساحل السوري من انطلاق فصائل
وعناصر منفردة من إدلب وحلب ومحافظات أخرى بشكل منظم وغير منظم، والقيام بهجوم
واسع على المناطق الآهلة بإخواننا العلويين في مشهد سوريالي، كان له تأثير سياسي
إيجابي كبير جدا.
أولا، على صعيد العلويين، إما أن تؤدي أحداث
الساحل إلى توحد العلويين في كتلة متراصة يقودها ضباط من فلول النظام السابق تبدأ
بفعل عسكري مضاد، أو يحدث العكس، عبر النأي بالنفس عن المقتلة التي قادها غياث دلا
وعناصره بحق عناصر من الأمن العام، وإعلان التبرؤ من هذا الفعل الذي وضع الطائفة
في خطر.
ما حدث هو الحالة الثانية، فقد أعلن كثيرون
من الطائفة العلوية رفضهم لسلوك عناصر فلول النظام بقدر رفضهم لرد الفعل السني،
لكن رد الفعل الأخير أيقظ في الوعي العلوي الحس التاريخي الآني، أي أصبحوا مدفوعين
بوعي أو بغير وعي، أو كليهما معا، لتمييز أنفسهم عن نظام الأسد والقبول بالواقع
السياسي الجديد، هكذا حمل رامي مخلوف وغيره مسؤولية أحداث الساحل على فلول نظام
الأسد، ومحاولتهم توريط الطائفة بأعمال عسكرية.
ثانيا، على صعيد الأكراد، صحيح أن المفاوضات
بين إدارة الشرع و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) تجري منذ فترة، وصحيح
أن الضغط التركي ما زال قائما مصحوبا بموقف أمريكي مائع، وصحيح أن ثمة توافقات بين
"قسد" ودمشق.
لكن الصحيح أيضا أن "قسد" ظلت
محتفظة بموقفها المتمثل بإبقائها قوة عسكرية متماسكة وخاضعة لقيادة كردية أولا، ثم
الاتفاق على شكل وجوهر النظام السياسي في سوريا قبل الحديث عن عمليات الدمج
العسكري ثانيا.
هل هي صدفة أن يُبرم الاتفاق بين
"قسد" ودمشق بعد أيام قليلة من أحداث الساحل السوري؟
في تقدير كاتب هذه المقالة أن أحداث الساحل
سرعت الاتفاق، فالمشهد الذي رآه كل السوريين، خصوصا الأقليات، كان مرعبا وجعلهم
يقومون بعملية إسقاط عقلي، ويطرحون تساؤلا هاما، ماذا لو حدث بالخطأ فعل مشابه
للكمين الذي نفذه غياث دلا تجاه الأمن العام؟ كيف سيكون الرد السُني؟
وفي بيئة كردية مختلطة بعشائر سُنية، ومحاطة
بغلاف جغرافي سُني، وبقوة عسكرية ضاربة تتحين الفرصة (تركيا)، هيمنت البراغماتية
الكردية على التفكير الأقلوي.
ثالثا، على صعيد الدروز، ما حصل مع الأكراد
حصل نفسه مع الدروز الذين شاهدوا بعينهم رد الفعل السُني في الساحل، وطرحت
التساؤلات نفسها.
ما جرى في الساحل السوري هو جريمة مكتملة الأركان، سواء أكان وراؤها عناصر من الأمن العام، أو فصائل منفلتة، أو أشخاص عاديين غاضبين، يتحينون الفرصة للثأر الشخصي.
وعلى الرغم من وجود قوى درزية ما تزال ترفض
الاتفاق مع دمشق، وفي مقدمهم شيخ الطائفة حكمت الهجري، إلا أن هناك قوى أخرى
تتفاهم مع إدارة الشرع منذ أسابيع عدة، وجاءت أحداث الساحل أيضا لتسرع الاتفاق بين
الجانبين، وتطوي إمكانية تكرار تجربة الساحل في السويداء.
رابعا، على صعيد الحكومة السورية، أدت أحداث
الساحل إلى إجبار الرئيس السوري أحمد الشرع على الانتقال من حالة الخطابات إلى
حالة الفعل الملموس على الأرض، ليس من خلال تشكيل لجنة للتحقيق بما جرى في الساحل
فحسب، بل والأهم بضرورة ضبط السلاح بين ظهرانيه، وخصوصا في المناطق الشمالية
الغربية من سوريا، حيث الفصائل المسلحة بعيدة عنه.
خاتمة
شكلت أحداث الساحل وستشكل، على الرغم من
مأساويتها، تحولا مهما في الساحة السياسية السورية، برزت مفاعليها في سلوك
الأقليات والأكثرية معا على السواء، وكانت مضامينها ما يُشبه الاتفاق المُضمر:
توافق الأقليات على الاندماج في النظام السياسي الجديد مقابل الحصول على ضمانات
سياسية وعسكرية وثقافية.
بهذا المعنى، فالحرب امتداد للسياسة، فما
أسيل من دماء في الساحل دفع إلى الانتقال نحو مرحلة سياسية جديدة، لن تستقيم إلا
بمشاركة جميع مكونات المجتمع السوري، بما فيهم العلويين من أجل بناء سوريا جديدة
تقوم على مبدأ المواطنة.