نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا مصورا أعدّه الصحفي كريستوفر ماغ والمصور فنسنت ألبان، تناول مجتمع باترسون في ولاية نيوجيرسي، الواقع على بعد خمسة عشر ميلا غرب مانهاتن، والذي يرتبط ارتباطا مباشرا، وغالبا مؤلما، بالعدوان القائم على
غزة.
قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، التزم ناصر سلمان بقاعدتين وضعهما لنفسه: ألا يبكي علنا، وألا يبكي أمام أي رجل.
غير أنه، بحسب ما أوردت الصحيفة، سافر إلى غزة ليعمل لمدة شهر ممرضا في مستشفى شهداء الأقصى، حيث شاهد عائلات تُقصف داخل خيامها وأطفالا يفارقون الحياة أمام عينيه.
بعد عودته إلى الولايات المتحدة بعدة أشهر، جلس سلمان في أحد المخابز في مسقط رأسه باترسون، وسرد قصصا عن تجربته في غزة، فبكى لأول مرة، وجلس بجانبه صديقه زاهد عبد الرحمن، الذي ترك هو الآخر عمله كممرض في نيوجيرسي للعمل في مستشفيات غزة، ومسح بيده على عنق صديقه، لتغمر الدموع عينيه أيضا.
قال سلمان، البالغ من العمر 37 عاما والمقيم حاليا في كليفتون، نيوجيرسي: "لم أبكِ أمام أحد قط، لن تبقى نظرتي للعالم كما هي أبدا".
وأوضحت "نيويورك تايمز" أن باترسون تعد منذ زمن مركزا للجالية الفلسطينية الكبيرة في نيوجيرسي، إذ يرفع العديد من المحلات التجارية الأعلام الفلسطينية، وأُعيدت تسمية جزء من شارع ماين رسميا باسم "طريق فلسطين".
ويرتبط أبناء هذه الجالية ارتباطا مباشرا بالحرب في غزة، إذ عاش كثير منهم سابقا في غزة أو الضفة الغربية، ولا يزالون على تواصل دائم مع أقاربهم هناك، الذين يرسلون لهم منذ عامين صورا ومقاطع فيديو للقصف والمنازل المدمرة والمدنيين المصابين أو القتلى.
ذكرت الصحيفة أن أفراد الجالية الشرق أوسطية في نيوجيرسي وجدوا في وقف إطلاق النار الهش فرصة للتفكير في تأثير الحرب عليهم، وقالت رانيا مصطفى، المديرة التنفيذية للمركز المجتمعي الفلسطيني الأمريكي في كليفتون، والبالغة 33 عاما: "لقد عدت إلى العلاج النفسي. أثناء الإبادة الجماعية، يجب أن تخضع للعلاج النفسي".
وأضاف التقرير أن والدها، دياب مصطفى، المولود في جيرسي سيتي والذي قضى طفولته في الضفة الغربية قبل أن يعود إلى نيوجيرسي، كان يستيقظ كل صباح لمشاهدة مقاطع الفيديو من غزة عبر "يوتيوب" و"إنستغرام" و"تيك توك"، حتى أصيب بالاكتئاب.
وقرر التوقف عن متابعة الأخبار وحذف تطبيقات التواصل الاجتماعي من هاتفه واستبدالها بتطبيق للتأمل.
وقال مصطفى، البالغ من العمر 58 عاما ورئيس مجلس إدارة المركز المجتمعي الفلسطيني: "لا يوجد شيء يمكنني فعله للحفاظ على سلامة عائلتي في الضفة الغربية، لذلك أصبحت مدمنا على التأمل، لم أعد أرغب في رؤية القتل بعد الآن".
ونقلت "نيويورك تايمز" عن زاهد عبد الرحمن، البالغ من العمر 46 عاما والمقيم في تينيك، نيوجيرسي، قوله إنه كان يعيش حياة أمريكية عادية قبل الحرب، ثم دفعته أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر إلى الانخراط في العمل الإنساني.
وترك عمله في مستشفى روبرت وود جونسون الجامعي وسافر مرتين إلى الشرق الأوسط متطوعا كممرض في مستشفيات غزة، حيث شاهد أيتاما حفاة ممددين بجوار قبور آبائهم.
وبعد عودته إلى نيوجيرسي، فقدت مظاهر الرفاهية جاذبيتها لديه، فاتجه إلى العمل السياسي، وارتدى بدلة رسمية للمرة الأولى خلال زيارته إلى واشنطن للضغط على أعضاء الكونغرس من أجل دعم وقف إطلاق النار في غزة. وقال: "أخيرا وجدت هدفا".
وأشار التقرير إلى أن رائد عودة، صاحب صالون فلسطين لتصفيف الشعر في جنوب باترسون، تحدث عن تحوّل في هوية الجالية المسلمة بالمدينة بعد سنوات من المراقبة الأمنية التي أعقبت أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، ومع انتهاء تلك الحقبة، بدأت الجالية في التعبير العلني عن انتمائها، فتمت إعادة تسمية الشارع الرئيسي بـ"طريق فلسطين" في أيار/ مايو 2022، وارتفعت الأعلام الفلسطينية على واجهات المتاجر، ورُسمت جداريات تحكي تاريخ فلسطين.
وقال عودة، البالغ من العمر 53 عاما ورئيس جمعية أعمال جنوب باترسون: "نشعر بمزيد من الثقة هنا، الآن، لنكون على سجيتنا".
وبحسب ما ورد في "نيويورك تايمز"، أصبحت باترسون وجهة للسياح من الشرق الأوسط المقيمين في مختلف الولايات الأمريكية، الذين يزورونها لتناول الطعام وشراء المجوهرات والهدايا التذكارية.
وأوضح عودة أن عدد الزوار تضاعف ليصل إلى 25 ألفا أسبوعيا، مضيفا: "لقد حققت باترسون نجاحا كبيرا في السنوات القليلة الماضية. يرغب الكثير من الناس في شراء شقق ومتاجر في باترسون الآن، ولدينا قوائم انتظار".
كما تناول التقرير قصة باري محمود، البالغ من العمر 22 عاما والمقيم في كليفتون، الذي قرر الانعزال داخل مجتمعه الفلسطيني والعربي عند اندلاع الحرب في غزة، وقال: "لقد نجحت، لقد عزلت نفسي داخل هذه الفقاعة، أتمنى لو لم أفعل ذلك بصرامة كما فعلت لأنني أستطيع أن أرى أن تجاربي محدودة بعض الشيء".
وختمت "نيويورك تايمز" تقريرها بالإشارة إلى أنه في أيار/ مايو 2024، تجمع أكثر من عشرة آلاف شخص في الشارع للاحتفال بيوم فلسطين، حيث قدم الفنانون الموسيقى والشعر، وصعد ناصر سلمان وزاهد عبد الرحمن إلى المنصة ليسردا تجربتهما كممرضين في غزة، بينما أغلق معظم أصحاب المتاجر أبوابهم في ذلك اليوم.