مقالات مختارة

الماكرونية: راهن فرنسا حيث تتوحش الليبرالية

صبحي حديدي
جيتي
جيتي
في سنة 2017 تصدرت فرنسا ترتيب الدول الـ30 التي تُحسن تطبيق مبادئ «القوّة الناعمة» حسب التقرير السنوي الذي يصدره معهد بورتلاند الأمريكي التابع لـ«مركز الدبلوماسية العامة» في جامعة كاليفورنيا الجنوبية، فحلّت في المرتبة الأولى وحصلت على 75.75 علامة؛ تلتها المملكة المتحدة، 75.72؛ فالولايات المتحدة، 75.02؛ وألمانيا، 73.67؛ وكندا، 72.90؛ واليابان، 71.66. في أسفل اللائحة قبعت الصين وروسيا وجمهورية التشيك وهنغاريا والبرازيل وتركيا؛ ولم يكن ثمة أي بلد عربي، غنيّ عن القول!

هذه السنة هبطت فرنسا إلى المرتبة الرابعة، بـ73.64، سبقتها المملكة المتحدة في المرتبة الأولى، ثمّ ألمانيا، فالولايات المتحدة؛ وفي أسفل اللائحة بقيت الصين هذه المرّة أيضاً، وقبلها المكسيك، وتركيا، وجمهورية التشيك.

وليست هذه السطور المقام المخصص لاستعراض معايير المعهد وتثمينها إيجاباً أم سلباً، ما خلا إشارة ذات مغزى خاص حول وجود الصين في ذيل اللائحة رغم أنّ صناعات البلد ومنتجاته الإلكترونية خصوصاً تنتشر في العالم بأسره، وغياب الاتحاد الروسي نهائياً لأسباب يمكن ردّها إلى نقائض القوة الناعمة في أوكرانيا (إذا أحسن المرء الظنّ بباحثي معهد بورتلاند، وأنّ المؤشرات السياسية مسبقة الانحياز ليست الحاسمة أوّلاً).

هذه السطور معنية، في المقابل، بأحوال فرنسا الراهنة، والمعاصرة عموماً، التي شهدت أمس إضرابات واسعة النطاق، في قطاعات حيوية صناعية وزراعية وجامعية ومدرسية، شملت الوظائف العمومية وسيارات الأجرة والصيدليات وشبكات النقل العام المختلفة، بمشاركة نقابات كبرى أساسية أو فرعية. وذلك اعتراضاً على سلسلة من تدابير التقشف الحكومية المزمع اتخاذها، من حيث الأهداف ذات السياق الحالي المتفجر؛ ولكن احتجاجاً، من حيث العمق والخلفيات الأعرض، على سياسات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أو ما صار يُسمى، من دون كبير تحفظ، بـ»الماكرونية». وبات المرء أمام مؤلفات كاملة مخصصة للمصطلح/ السياسات، كما في الفرنسية عند إريك فوتورينو، «ما هي الماكرونية؟»؛ ومريام ريفو دالون، «روح الماكرونية»؛ ولوك روبان، «مفارقة الماكرونية»؛ ودومنيك فيلمو، «ما الماكرونية؟»…

وفي أية موسوعة مدرسية مبسطة، يُعثر بسهولة على المسارات التالية للرئيس الفرنسي الـ25 (الـ10 في الجمهورية الخامسة): ليبرالي، وسطي، «لا يميني ولا يساري» «اليمين واليسار معاً» «ليبرالي اشتراكي» «اشتراكي ديمقراطي» وهذه، كلها، توصيفات أطلقها بنفسه على نفسه؛ فضلاً عن ولاء، بين حين وآخر، لـ«الطريق الثالث» كما شخصته سياسات أمثال بيل كلنتون، توني بلير، وغرهارد شرودر.

وبمعزل عن حقيقة فوزه، مرّتين، ضمن مواجهة مع مارين لوبين زعيمة اليمين المتطرف والعنصري، الأمر الذي وضع شرائح غير قليلة من رافضي خطّه السياسي والاقتصادي والإيديولوجي أمام خيار التصويت له، مكرهين؛ فإنّ ماكرون اشتغل منذ البدء على تفكيك، وحشر حزبه في منزلة وسيطة بين، كتلتين تسيّدتا تاريخياً الحياة السياسية والحزبية في فرنسا منذ 1958: اليسار والليبرالية، من حول الحزب الاشتراكي؛ واليمين والتيار المحافظ، من حول بقايا الديغولية وحزب الجمهوريين.

لكنّ «رئيس الاغنياء» كان اللقب الأكثر شيوعاً لدى الفئات الشعبية في فرنسا، من محدودي الدخل عموماً إلى أبناء الطبقة الوسطى، وكانت السياسات الداخلية الماكرونية تدفع إلى الشوارع مئات الآلاف من المتظاهرين، وتتسبب في إضرابات شتى عريضة ومتعددة الشعارات؛ خلال رئاستَيْ ماكرون، منذ 2017 وحتى الساعة.

ولم تكن الـ»نيوليبرالية» التي اتسمت بها سياسات ماكرون، ولا مرور أربعة رؤساء حكومة متعددي المشارب بما يتكرر لدى كلّ منهم من انقلابات، ولا تغيير قوانين كبرى تاريخية مثل سنّ التقاعد… هي وحدها منابع السخط الشعبي؛ بل كان الاضطراب السياسي، وعدم الانتظام الإداري والبيروقراطي، وإرباك العمل البرلماني إلى درجة الشلل، بمثابة عوامل إضافية نجمت عن قرار ماكرون المتسرع بحلّ الجمعية الوطنية وما أسفر عن الانتخابات المبكرة من انقسامات واستحالة إجماع على ثلاث حكومات حتى الساعة.

ولأنّ ماكرون ليس وافداً طارئاً منقطع الصلة بماضي فرنسا، خلال عقود الجمهورية الخامسة على الأقلّ، ولا الإضرابات العارمة اليوم منفصلة تماماً عن تاريخ طويل حافل؛ فإنّ من الحكمة استذكار عالِم الاجتماع، والمفكّر الفرنسي الكبير، بيير بورديو (1930 ـ 2002) أحد آخر الكبار المحترمين من قلائل كرّسوا الجهد المعمّق، المنتظم والمنهجي، لدراسة ظواهر السياسة اليومية في فرنسا المعاصرة، ولم يكتفوا بالتأمّل المحض، بل انخرطوا في الفعل أيضاً، وفي المشاركة المباشرة.

ولقد كان بورديو شديد القلق إزاء شبكة العلاقات المعقدة بين رأس المال المعاصر والخطاب السياسي الشعبوي، وكان بالغ الحصانة ضدّ إغواء الألعاب النظرية ما بعد الحداثية، التي تطمس التاريخ أو تعمد إلى تمييع دروسه، أو تخلط عن سابق قصد بين ليبرالية مؤنسَنة ظاهرياً وأخرى ذاتها وقد توحشت وانفلتت من كلّ عقال.

وكان منطقياً فقط أنّ بورديو، صحبة نفر قليل من ممثلي هذه الأقلية، شارك في اجتماع شهير مع القيادات النقابية الفرنسية لاتخاذ قرار الإضراب الشامل الواسع الذي شلّ مختلف قطاعات الحياة اليومية الفرنسية أواخر العام 1995، للأسباب المقاربة ذاتها التي شحنت الشارع الشعبي الفرنسي مراراً وتكراراً، وتشحنه اليوم أيضاً بعد ثماني سنوات من الماكرونية النيوليبرالية.
في قلب معترك الهوية هذا، ثمة أبعاد إيديولوجية متقاطعة طبعت التاريخ الفرنسي المعاصر

المنطق ذاته مكّن بورديو من وضع إصبعه على الغور العميق للجرح الحقيقي، أي اغتراب المجتمع الفرنسي بين خيارين أحلاهما مرّ، بل شديد المرارة: الليبرالية الهوجاء، التي تخبط في الإصلاح خبط عشواء، وتتخبط؛ والتوحّش الصريح لقلّة قليلة من التكنوقراط، ممّن يواصلون الإيمان بأنهم يعرفون الدرب إلى سعادة الأمّة، أكثر ممّا تعرف الأمّة نفسها، بل في غيابها حين تقتضي الضرورة. جانب جوهري ثانٍ كان، وما يزال، يتصل بالقلق حول الهوية، وبالذعر من مستقبل غامض أو شبه غامض، وبالحذر من متغيرات عاتية تأخذ الفرنسي على حين غرّة وتضعه بين مطرقة الليبرالية المتوحشة وسندان الليبرالية التكنوقراطية، على حدّ تعبير بورديو.

في قلب معترك الهوية هذا، ثمة أبعاد إيديولوجية متقاطعة طبعت التاريخ الفرنسي المعاصر، ولكنها في عهد ماكرون اكتسبت صفة حركية خاصة وذات ديناميات مستقلة طبقاً للمعادلة التالية: إذا كان اشتغال ماكرون على محو الحدود الفاصلة بين اليسار واليمين قد نجح بدرجات متفاوتة، لصالح خطّ الوسط الخاص به؛ فإنه، في الآن ذاته، وبسبب شرط جدلي طبيعي لم يُضعف، بل عزّز قوّة، المنطقة الرابعة التي يتمترس فيها اليمين المتطرف، العنصري والقومي، كما تمثله «الجبهة الوطنية» المتحولة على يد مارين لوبين إلى «التجمع الوطني».

تتمة الشرط ذاته صنعت مفاجأة لم تكن في الحسبان، مفادها أنّ تخبّط الماكرونية سرّع ولادة جبهة يسارية كانت عصية على التوحّد، حافلة بالخلافات والانقسامات، أعطت «معجزة» الانتخابات التشريعية التي أعقبت حماقة ماكرون بحلّ الجمعية الوطنية، حين خرج اليسار ظافراً في رأس الترتيب.

شعبية ماكرون هي الأدنى لأي رئيس سبقه على امتداد 67 سنة من عمر الجمهورية الخامسة، وهي اليوم تكسر عتبة الـ20٪ التي لم يهبط إليها سيد قصر الإليزيه حتى خلال احتجاجات حركة «السترات الصفراء» العارمة الخانقة، سنة 2018؛ أو حتى بعد حجب الثقة عن رئيس حكومته الثالثة ميشيل بارنييه، أواخر 2024.

هذه، في جانب آخر من دلالاتها، معطيات لا تقتصر على شخص ماكرون بطبيعة الحال، بل الأحرى الافتراض بأنها تصويت على الماكرونية في مقام أوّل؛ عابرة، استطراداً، لليسار ولليمين وللوسط، تضرب بجذورها في قلب خيارات ترنحت طويلاً على طريق ثالث، متعرّج كثير المطبات والحُفَر، لا يُعبّد إلا بإسفلت الليبرالية المتوحشة الهوجاء.

القدس العربي
التعليقات (0)

خبر عاجل