للتوضيح
هذا المقال ليس دفاعًا عن طرف
لبناني ضد
آخر، ولا دعوة للاستسلام للاحتلال الإسرائيلي، ولا قبولًا بالخطة الإسرائيلية ـ
الأمريكية التي أعلنت الحكومة اللبنانية انخراطها فيها. إنما هو قراءة في واقع
تشكّل على الأرض، حيث تتراجع قدرة "حزب الله - المقاومة" على أداء
وظيفتها الأساسية في مواجهة الاحتلال، مقابل تحوّلها إلى أداة للتصعيد والتهديد
السياسي والإعلامي في الداخل.
تآكل الردع
منذ الضربة القاسية التي تلقّاها حزب الله
العام الماضي، تغيّر المشهد في الجنوب اللبناني على نحو غير مسبوق. فبعد أن كان
الحزب يقدّم نفسه لاعبًا عسكريًا لا يُقهر في مواجهة إسرائيل، باتت الوقائع على
الأرض تقول عكس ذلك.
ما يثير الدهشة والاستغراب فعلا أنه وعلى الرغم هذه الخسائر الميدانية، لم يُظهر حزب الله أي قدرة فعلية على ردع إسرائيل أو منعها من توسيع عملياتها. السلاح الذي لطالما قُدّم كضمانة لسيادة لبنان، بدا عاجزًا عن حماية مناطقه أو إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل المواجهة الأخيرة.
لم يتراجع عدد الغارات الإسرائيليّة منذ وقف
إطلاق النار العام الماضي، بل استمرت بشكل شبه يومي.
وزارة الصحّة اللبنانية أظهرت أن الهجمات
خلفت قرابة 250 قتيلًا و609 جريحًا منذ 27 نوفمبر 2024 حتى نهاية يونيو 5202.
تقرير حكومي آخر ذكر أن هذه الهجمات تجاوزت
3000 انتهاك للهدنة، خلّفت231 قتيلًا و500 جريحاً تقريبًا.
هذه الوقائع تُظهر أن إسرائيل واصلت
عملياتها بكثافة رغم إعلان وقف إطلاق النار، فيما لم يسجّل أي رد نوعي أو فعّال من
حزب الله، ما يعكس تراجعًا واضحًا في معادلة "الردع".
عجز ميداني مقابل تهديد داخلي
ما يثير الدهشة والاستغراب فعلا أنه وعلى
الرغم هذه الخسائر الميدانية، لم يُظهر حزب الله أي قدرة فعلية على ردع إسرائيل أو
منعها من توسيع عملياتها. السلاح الذي لطالما قُدّم كضمانة لسيادة لبنان، بدا
عاجزًا عن حماية مناطقه أو إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل المواجهة الأخيرة.
طبعا قد يفهم ذلك ضمن معادلات الردع على
الأرض، ليس فقط بسبب الضربات القوية التي تكبدها من الاحتلال، وإنما أيضا بسبب
تغير موازين القوى كذلك إقليميا بعد استهداف إيران بشكل مباشر..
لكن المثير أيضا أن الحزب عندما بدأ النقاش
وطنيا حول موقع السلاح في العلاقات الوطنية ارتفع منسوب التصعيد السياسي والإعلامي
داخليًا، محذرا من خطر المساس بـ"سلاح المقاومة". هذا السلاح، الذي فقد
جزءًا كبيرًا من قدرته على الردع في وجه إسرائيل، وفق هذا المنظور يتحوّل إلى أداة
ضغط وتهديد للقوى السياسية اللبنانية الأخرى، تحت شعار "الحفاظ على توازن
الردع" أو "حماية لبنان من العدوان".
انحراف البندقية عن هدفها
مأتى المخاوف جميعا بالنسبة لقسم كبير من
اللبنانيين والعرب كذلك، أن هذا السلاح الذي قُدِّم للبنانيين والعرب على أنه
موجَّه حصريًا لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، خرج عن هدفه الأول منذ أكثر من عقد.
ففي ذروة قوته، لم يُستخدم ضد إسرائيل بقدر ما استُخدم في الحرب السورية.
هناك، وجد الحزب نفسه طرفًا رئيسيًا في
معارك داخلية، حيث وجَّه بندقيته إلى صدور السوريين وحماية النظام، بدل أن يوجّهها
إلى صد الاعتداءات الإسرائيلية. هذا الانحراف الأول ترك أثرًا عميقًا في صورة
"المقاومة"، وأثار تساؤلات حول شرعية السلاح ووجهته.
والخشية أن يتكرر المشهد نفسه لكن في الداخل
اللبناني، فالسلاح الذي خرج عن مهمته في سوريا، قد يتحوّل إلى أداة تهديد سياسي
وربما أمني داخل لبنان، إذا لم يتم ضبطه بشكل حاسم.
لبنان بين فكي كماشة
بلد منهك اقتصاديًا واجتماعيًا، غارق في
أزماته المعيشية، يجد نفسه اليوم بين فكي كماشة: من جهة، حكومة تتماهى تمامًا مع
المخطط الإسرائيلي ـ الأمريكي المطروح على الطاولة، ومن جهة أخرى، حزب فقد أوراقه
في المواجهة الخارجية لكنه داخليا لا يزال طرفا رئيسيا.
هذا الخيار، إذا اتخذ، لن يكون مجرد تصعيد
سياسي أو احتجاجي، بل قد ينزلق إلى مواجهة مسلحة أو حرب أهلية مصغّرة، لن تكون
"تحريرًا" ولا "مقاومة"، بل صراعًا داخليًا يسرّع انهيار
الدولة ويقود إلى تفكك أوسع في النسيج الوطني، وليكون الاحتلال المستفيد الأوحد!
بين غزة ولبنان.. فارق المسار
من الطبيعي أن تُطرح المقارنة بين ما يجري
في لبنان وما تشهده غزة، حيث تقف مقاومتان أمام عدو واحد، لكن بظروف ونتائج
مختلفة. فالمقاومة في غزة، رغم مرور ما يقارب العامين على حرب إبادة غير مسبوقة،
ما زالت ثابتة على هدفها الأساسي: مواجهة الاحتلال. صحيح أنها تعاني من حصار خانق
ودمار هائل وخسائر بشرية موجعة، لكنها لم تنخرط في صراعات عربية ـ عربية، ولم تعلن
استراحة تمنح إسرائيل شعورًا بالأمان. بل على العكس، ما زالت تدير معركة مفتوحة،
ولو بأدوات محدودة، تعكس جوهر المقاومة كفكرة وكممارسة.
أما في لبنان، فالصورة مختلفة: مقاومة
انخرطت بشكل خجول في معركة طوفان الأقصى، واليوم بعد الضربة القاسية والعجز
الميداني، وارتفاع الأصوات الدولية المنادية بإنهاء حزب الله، الخوف أن يتحول ما
تبقى من سلاح لحزب الله إلى الداخل في معركة سياسية قد تعيد أجواء الحرب الأهلية
بما لا يخدم لبنان والمقاومة في شيء.
بهذا المعنى، لا يعود الفارق مجرد تفاوت في
القدرات أو حجم الخسائر، بل في الوجهة: غزة ما زالت تقاتل عدوها المباشر، بينما
لبنان يعيش حالة مقاومة فقدت هدفها الأصلي.
هذا الفارق الجوهري يفسّر لماذا تُحاط
مقاومة غزة، رغم المآسي والكلفة الباهظة بهالة "المشروعية" الشعبية
والإقليمية، فيما تتعرض "مقاومة لبنان" إلى تساؤلات وانتقادات قاسية حول
معناها وجدواها.
فالثبات على الهدف، حتى في أقسى الظروف،
يختلف تمامًا عن الانحراف عنه أو تحويله إلى الداخل.
ولهذا يمكن القول إن مقاومة غزة ما زالت
تقاوم، أما في لبنان فالمقاومة لا تقاوم، أو لا تستطيع المقاومة.
مستقبل "المقاومة"
ما يجري يفتح الباب على سؤال جوهري: ما معنى
"المقاومة" حين تعجز عن مقاومة الاحتلال فعليًا، وتكتفي بالتهديد
الداخلي؟ هل ما زال السلاح يحتفظ بشرعيته الشعبية والوطنية إذا كان عاجزًا عن
حماية الأرض ويُستخدم أساسًا كورقة سياسية؟
المطالبة بضبط السلاح لا يمكن أن تُنجز فعليًا تحت ضغط خارجي، سواء إسرائيلي أو أمريكي. أي محاولة مفروضة من الخارج لتحجيم السلاح ستضعف الدولة وتحوّل النقاش إلى أداة ابتزاز، بدل أن يكون حماية للسيادة الوطنية.
الوقائع الراهنة تشير إلى أن لبنان يعيش
مرحلة انتقالية، حيث تتآكل صورة "المقاومة" الميدانية، في مقابل
استخدامها كأداة سياسية وإعلامية. وبين هذين البعدين، يبقى المجتمع اللبناني
مثقلًا بأعباء الانقسام والخوف من انفجار جديد، لا يملك أحد ضمانات بشأن نتائجه.
ضبط السلاح.. مطلب داخلي قبل أن يكون
خارجيًا
المطالبة بضبط السلاح لا يمكن أن تُنجز
فعليًا تحت ضغط خارجي، سواء إسرائيلي أو أمريكي. أي محاولة مفروضة من الخارج
لتحجيم السلاح ستضعف الدولة وتحوّل النقاش إلى أداة ابتزاز، بدل أن يكون حماية
للسيادة الوطنية.
يجب أن ينبع ضبط السلاح من إرادة لبنانية
مستقلة، تشارك فيها جميع القوى على أسس وطنية ودستورية، ليبقى السلاح أداة لحماية
لبنان ومقاومته، لا أداة لتقويضه أو خدمة أجندات خارجية.
ليس المقصود من هذا المقال مهاجمة مبدأ
المقاومة أو نفي مشروعيتها في وجه الاحتلال، فالمقاومة في معناها العام حق مشروع
لأي شعب تحت الاحتلال، إنما المقصود هو توصيف واقع محدّد: مقاومة فقدت فاعليتها
الميدانية، انحرفت سابقاً طائفياً، وهناك مخاوف أن تنحرف اليوم إلى الداخل، فتصبح
أداة تُستخدم أكثر كسلاح سياسي في ساحة لبنانية ممزقة، بدل أن تكون أداة تحرير
ودفاع عن الأرض، وهو ما لا نريده جميعا لا للبنان ولا غيره من أوطاننا الطامحة إلى
الحربية والسيادة.