قضايا وآراء

صراع الهويّة في السجن: من أنت؟

أحمد دومة
"السلطة تُعيد إنتاجك ككائن مشوَّه، لا يتكلّم بلسان ذاته، بل بلسان الإدانة السابق سكّها"- عربي21
"السلطة تُعيد إنتاجك ككائن مشوَّه، لا يتكلّم بلسان ذاته، بل بلسان الإدانة السابق سكّها"- عربي21
حين تبحث عن اسمي، في محرّك بحث أو في ذهن أحدهم، لن تحتاج كثيرا من العناء لتجد علامتين بارزتين وُصمتُ بهما: "المجمع العلمي" و"الفلسطيني المجنّس"، لا حاجة لأكثر من هاتين الكلمتين لتُفتح ملفات مُعدة سلفا، وتُستخرج منها تُهم غير معلنة، تلقي بظلالها على مقال كتبته، أو منشور شاركت به، أو فعالية ظهرت فيها، لا تُناقَش الحجة، أو يُعاد النظر لما جرى، أو يفتّش عن حقيقة، بل فقط تُستنطق الوصمة (التي هي أنت).

حتى من يُفترض بهم الوعي، من صحافيين ومثقفين ورفاق، يتناولون هذه العلامات كمسلّمات، لا يسألون من أين جاءت، ولا يكلفون أنفسهم عناء الشك في أصلها، أو التحقّق منها، يكملون الرواية في أذهانهم كأنها فصول ناقصة في سيناريو يعرفونه جيّدا، دون أن يتوقفوا لحظة ليسألوا: من كتب هذا السيناريو أصلا؟ ولماذا؟

ما يُوجع في الأمر ليس فقط اختلاق الرواية، بل استسهال تصديقها، السلطة أنتجت صورة وروّجتها، ثم جلست تراقب كيف يُعيد الناس إنتاجها بحماسة، والإضافة إليها بما يتّفق مع أمنياتهم أو تصوّراتهم الشخصيّة عن الحدث أو صاحبه، لا لأنهم يملكون دليلا، بل لأن الرواية الرسمية تُريحهم، تجهّز لهم خصما بلا لزوم للتفكير، لا تصطدمهم بالمسؤولية، بل تمنحهم "نسخة جاهزة" عنك، كافية للهجوم أو الإقصاء.

ما يُوجع في الأمر ليس فقط اختلاق الرواية، بل استسهال تصديقها، السلطة أنتجت صورة وروّجتها، ثم جلست تراقب كيف يُعيد الناس إنتاجها بحماسة، والإضافة إليها بما يتّفق مع أمنياتهم أو تصوّراتهم الشخصيّة عن الحدث أو صاحبه، لا لأنهم يملكون دليلا، بل لأن الرواية الرسمية تُريحهم

من هنا تبدأ فخاخ الهوية: ليست حربا على ما تفعل، بل على ما تكون، ليست معركة رأي، بل هندسة متعمّدة للمعنى، تفخيخ الهوية ليس بتكميم الأفواه فقط، بل بإعادة تشكيل الصوت؛ فالقمع الحديث لا يُسكتك (وإن كان بعضه يفعل) بل يتكلّم باسمك.

الهويّة المفخّخة: صورتك التي صنعتها السلطة

ليست الهويّة في السجن تراكما حرّا لخبراتك وذكرياتك وعلاقاتك، بل مشروع هندسة قسرية، تُساق إليه، لا لتُعرّف به، بل لتُدان من خلاله؛ فالسلطة، وقد جرّدتك من الجسد والحيّز والقرار، لا تكتفي بتجميد وجودك، بل تعمل بدأب على إعادة تشكيل صورة هذا الوجود، وفق تصوّرها هي، تُعيد إنتاجك ككائن مشوَّه، لا يتكلّم بلسان ذاته، بل بلسان الإدانة السابق سكّها، لا يُرى إلا من خلال مرآتها المهشم التي تشظيك في كل نظر، إذ لا مكان فيها لتعقيدك الإنسانيّ ولا لحريّتك؛ لا مكان فيها لك.

الهويّة المفخخة ليست مجرّد "اتهام"، بل عملية مركبة من التجريد والتشويه، تُصنع في غرف المخابرات وصفحات التقارير ومقاطع الفيديو المجتزأة والمعدّة بإتقان، ثم تُوزّع على المجتمع كحقيقة راسخة، لا تحتاج إلى دليل، لأنّ الصورة باتت أوضح من الحقيقة نفسها، هكذا يُصبح اسمك مشحونا بكثافة رمزية خطرة: لا يُذكر إلا مسبوقا بلعنة أو لاحقا بتحذير، لا يَصل إلا وقد انفجر في وجه من يلفظه، كما لو أنّ ذاتك لغم ينتظر من يطأه لينفجر.

في هذا السياق، لا تُبنى الهوية لتكون مرآة للذات، بل لتصير قيدا لها، يجرّها إلى المساءلة والتجريم أو في أحسن الأحوال إلى النفي والتجاهل، وتلك هي المعضلة: أن يسبقك تمثيلك إلى الناس، وتغدو مضطرا إلى الدفاع عن نفسك أمام صورة لم تصنعها، لكنها تتحدث باسمك، وهو ما يرسّخها ولو نفيا، ستظلّ تدور حولها إلى ما لا نهاية، وهذا بالضبط مقصد السلطة حين صنعتها وأنتَ محيّدٌ مقيّدٌ في سجنك.

الهويّة المفروضة والمستعادة

ما بين الهوية المفروضة والهوية المستعادة تماما كما بين أن تُرى وأن تُبصِر نفسك؛ الهوية المفروضة تُبنى خارجك، وتُسلّط عليك، تُنتجها أجهزة السلطة والإعلام واللغة الأمنية، وتُضخّ في الوعي الجمعي حتى تتصلّب كحقيقة، بينما أنت محجوب، غير مسموع، لا صوت لك في تعريف ذاتك أو إنتاجها.

الهويّة المستعادة، في المقابل، فعل مقاومة، ليست استردادا لأرشيفٍ شخصيّ فحسب، بل نحتا للذات في مواجهة محاولات طمسها أو محوها، أن تستعيد هويّتك يعني أن تُعيد المعنى إلى جسدك المُصادَر، أن تُعيد صياغة سرديّتك بلسانك، أن تقلب التمثيل، بحيث لا تكون "ما يقولونه عنك" بل "ما تقوله أنت عن نفسك" أو -فقط- ما تكونه، وهذا الاسترداد، في ظروف القمع، ليس ترفا سرديّا، بل معركة وجود.

أدرك فوكو جيّدا كيف تمارس السلطة هيمنتها عبر "إنتاج الخطاب" لا فقط عبر الجدران، وأشار جرامشي إلى "الهيمنة الثقافية" التي تجعلك ترى نفسك بعين جلادك، وهو ما يجعل المقاومة -كما نفهمها- ليست مجرّد صراخ خارج النسق، بل تخريبا حثيثا له من داخله: أن تكتب، أن تتكلّم، أن تُعيد المعنى إلى اللغة التي صادرَتْك، وأن تكشف المفارقة التي فيها يُفرض عليك أن "تُشرح نفسك" للعالم وأنت مقيّدٌ بسلاسل لغته.

كيف تُفخّخ الهوية؟

تُفخّخ الهوية حين يُجتزأ السياق، ويُختزل الفرد إلى سطر في تقرير، أو إلى لقطة في فيديو، أو إلى لقب يُساق بلا اسم، استحقارا أو استهزاء، يبدأ التفخيخ بإعادة تعريفك من الخارج: لا بصفتك شخصا، بل بوصفك تهمة، تخرج من حيّز الإنسانية إلى حيّز التصنيف الأمني، والوصمة الإعلاميّة (الأمنيّة هي الأخرى)، يتمّ اختزال تعقيدك الإنساني إلى عدد من الكلمات المفخخة: "ناشط"، "مثير للشغب"، "محرض"، "إخواني"، "إرهابي".. هذه الكلمات ليست مجرّد توصيفات بل قنابل لغوية أنت ضحيّتها الوحيدة، و -ربّما- وعي الناس في مرتبة تالية.

يعمل الإعلام، هنا، كذراع روائي للسلطة، لا يُخبرك بما حدث، بل يُملي عليك كيف ينبغي أن تراه، يخلق حبكة درامية مشحونة ضدك، ويُعيد ترتيب الوقائع لتتلاءم مع السيناريو، لا يعود الناس يرونك، بل يرون صورة مشبعة أنت فيها كائن مفترَض لا يشبهك، وهكذا تصبح الهوية قنبلة موقوتة؛ كل من يتعاطف معك، مشتبهٌ به، وكل من يشكّك في روايتهم، سيُدان بالتبعية.

القاموس الأمني وتمثيل المعتقل
تُصبح هذه اللغة متداولة، يتبنّاها المجتمع بغير وعي، ويتحوّل التمثيل الأمني إلى تمثيل ثقافي، كما لو أنّك لم تُعتقل بسبب موقفك، بل لأنّك -بطبيعتك- خطر، فيغدو الدفاع عنك عبئا، وذكر اسمك مكلفا، ويصير من الأسهل للجميع أن يصمتوا، أو أن يُسلّموا بأن ما جرى لك وجيه؛ إذ "لا دخان بلا نار"

في قلب هذه اللعبة، يقف القاموس الأمني، لا كوسيلة بل كسلطة، هو لا ينقل بل يُشكّل، يصوغ الشخص كتهديد قبل أن يكون بشرا، يُعيد تعريفه كمشكلة ينبغي احتواؤها، يُفرغ الكلمات من دلالاتها الحيّة، ويملؤها بإشارات مشروطة بالخطر، في خطابهم، لا يُذكر اسم الأسير إلا محمولا على احتمالات الجريمة، أو على هامش الاتهام.

لكن الأخطر من ذلك أن تُصبح هذه اللغة متداولة، يتبنّاها المجتمع بغير وعي، ويتحوّل التمثيل الأمني إلى تمثيل ثقافي، كما لو أنّك لم تُعتقل بسبب موقفك، بل لأنّك -بطبيعتك- خطر، فيغدو الدفاع عنك عبئا، وذكر اسمك مكلفا، ويصير من الأسهل للجميع أن يصمتوا، أو أن يُسلّموا بأن ما جرى لك وجيه؛ إذ "لا دخان بلا نار".

في استعادة المعنى

من هنا تبدأ الكتابة كفعل استرداد: ليست مجرد شهادة، بل بناء مضادّ، تكتب لا لتُخبر فقط، بل لتُفكّك ما صيغ ضدك، كل جملة تكتبها هي عودة إلى نفسك، وإعادة رسم لمعالمها خارج إطار الاتهام، تكتب لتقول: هذا أنا، لا ما كتبوه عني، ولا ما أرادوني أن أكونه، في لحظة استرداد الهوية، لا تعود الضحية تهمة، بل شاهدا أو شهادة، لا يعود الأسير رقما، بل راويا ورواية، وهذا هو جوهر المعركة: ألّا تدعهم يتحدثون نيابة عنك، ألّا تترك صورتك في أيديهم. إنّ الهويّة، كما قال بول ريكور، ليست معطى ثابتا، بل سردية مستمرة.

في السجن، يحاولون إنهاء السرد، تجميده، تفخيخه، لكنك تستمرّ، أو عليك أن تستمرّ، والكتابة هي طريقتك في الاستمرار: أن تروي، أن تُعيد ترتيب المعنى، أن تقول: "أنا من يكتبني، لا أنتم" وهكذا، لا تكتفي المقاومة بأن تكون رفضا للقيد (وتخلّصا لوجود القيد كمادة وكفكرة)، بل تُصبح سبيلا لاستعادة الذات من بين الحطام، لا لتعود كما كانت، بل كما ينبغي أن تكون: شاهدة، حيّة، وذات معنى لا تفتته كل حملات المحو.
التعليقات (0)

خبر عاجل