مقالات مختارة

هل اعتدنا المشهد؟

عاصم منصور
إكس
إكس
تقول الكاتبة المصرية الراحلة رضوى عاشور: «إن التعوّد يلتهم الأشياء؛ يتكرر ما نراه، فنستجيب له بشكل تلقائي وكأننا لا نراه، لا تستوقفنا التفاصيل المعتادة كما استوقفتنا في المرة الأولى؛ نمضي وتمضي، فتمضي بنا الحياة كأنها لا شيء».

ما تزال تلك الكلمات تتردد في ذِهني كلما استعدت ذاك الصباح المُتجمّد، في يومي الأول كطالب طِب في مساق الطَّب الشرعي. كان أوَّل ما شهدناه تشريح جُثة شاب عشريني قضى لِتَوّه في حادث دراجة، لم نتعامل معه كجُثة أو موضوع دراسة، بل استوقفتنا تفاصيله الإنسانية: بنطال الجينز، وقميصه ذو المُربَّعات الحمراء والزرقاء، وعلبة سجائر لم يمنحه القدر فرصة لإنهائها. تساءلت حينها عمّا كان يدور في ذِهنه في لحظاته الأخيرة، وعن الأحلام التي وُئِدت، وعن قلبه الفَتي الذي توقَّف عن النَّبض، وعن أمٍّ ثكلى أو حبيبة تنتظر ورود الثامن من آذار.

كان ذلك أول لقاء لنا مع الموت، فقد كانت الجثث التي تعاملنا معها سابقا في مادة التشريح مغرقة في القدم بحيث فقدت ملامحها البشرية، وقد أطبق الصَّمت على الجميع، وهرب الدَّم من بعض الوجوه. لم يحتمل كثيرون الموقف، وخرج آخرون بحثًا عن القليل من الأوكسجين. كان المدرس واقفًا أمام الجثة يملي على الكاتبة بصوت محايد، ويعود بين الفينة والأُخرى إلى سيجارته، يتكلم بلغة خالية من أي عاطفة: «الطول 185 سم، لون الشعر بني، لون العينين...». استهجنّا حياديته، وابتسامته السّاخرة التي كانت تصفع ذهولنا وتأثرنا ولم نكن نعلم حينها أنه  لن يمضي كثير وقت حتى نتغير.

توالت الدُّروس، وتوالت الجُثَث، وتكررت المواجهات مع الموت، ولم ننتبه إلى أنَّ رهبة الموقف الأول قد زالت، وأن التعوّد قد تسلَّل إلى قلوبنا. خبا تعاطفنا مع الضحايا وأهليهم، وتحولت التفاصيل الإنسانية الصغيرة إلى مجرَّد أدلّة؛ وربما موضع تندَّر أحيانًا. 

هذه التجربة الشخصية ليست حِكرًا على الأطباء؛ بلْ هي جُزء من ظاهرة نفسيّة أوسع تظهر في أوقات الحروب والكوارث، حين تتكرر مشاهد العُنف والدَّمار أمام أعيُننا. في البداية، نشعر بالصَّدمة والحزن، لكن مع تكرار المشهد، يبدأ العقل في بناء جدران دفاعية؛ في مُحاولة لحماية الذّات من الانهيار أو الإحساس بالعجز.

هنا تظهر ظاهرة «التبلُّد العاطفي» أو «الاعتياد»؛ حيث يتراجع التأثّر تدريجيًّا حتى يُصبح الألم مجرّد خلفية باهتة في حياتنا اليومية.

وفي عصر الإعلام الرقمي تتدفق صور العُنف والأخبار المأساوية بِلا توقف، مما يُسرِّع من عملية الاعتياد ويزيد من خطر التبلُّد العاطفي، فالتّعرض المستمر لهذه المشاهد يجعلها تبدو مألوفة وعادية، ويُضعِف قُدرتنا على التَّعاطف مع الضحايا. 

فالعقل البشري مُبرمج على حماية نفسه من الألم النفسي الشديد فعندما يتعرض الإنسان بشكل مُتكرر لمشاهد عنف أو مُعاناة، يبدأ في تطوير آليات دفاعية مثل الإنكار أو الهروب أو حتى التقليل من أهمية الحدث، وهذه الآليات ليست دليلًا على القسوة، بل هي استجابة طبيعية للضغط النفسي المستمر؛ لكن هذا الاعتياد قد يحمل في طياته جانبًا مُظلمًا؛ إذ قد يؤدي إلى «نزع الإنسانية» عن الضّحايا، فنراهم مجرد أرقام أو صور عابرة. فقد يتسلل تبلد المشاعر إلى أعماقِنا دون أن نشعر؛ فيجعلنا أقل قُدرة على التّعاطف وأقل رغبة في اتخاذ موقف.

الاعتياد على مشاهد العُنف هو انعكاس لصراع داخلي بين الحاجة إلى الحماية النفسية والواجب الأخلاقي تجاه الضحايا، ومسؤوليتنا أن نبحث عن التوازن، وأن نتمسّك بإنسانيتنا مهما اشتدت قسوة العالم من حولنا، فقد يصبح الصّمت أو اللامبالاة نوعًا من التَّواطُؤ غير المباشر مع الجريمة.
(الغد الأردنية)
التعليقات (0)

خبر عاجل