أفكَار

مميزات الخطاب القرآني في الدعوة والتبليغ بالحكمة والموعظة الحسنة

إن إقبال الناس على الإسلام من كل الأجناس والأقوام بعد التعرف على حقيقته من خلال سلوك بعض الدعاة من أبنائه، لدليل قاطع على جوهر إنسانية الخطاب الإسلامي في ذاته..
إن إقبال الناس على الإسلام من كل الأجناس والأقوام بعد التعرف على حقيقته من خلال سلوك بعض الدعاة من أبنائه، لدليل قاطع على جوهر إنسانية الخطاب الإسلامي في ذاته..
بعد أن بينا في المقال السابق أهمية الخطاب ودوره في حياة الإنسان من حيث علاقته بخالقه في مجال العبادة، تلقيا للرسالة وتبليغا لها، ومن حيث علاقته في الحياة بأخيه الإنسان، نتناول مميزات الخطاب القرآني من حيث الأسلوب والموضوع، وهما من الشروط الأساسية في أي خطاب ناجع، يرجى أن يؤتي أكله ويبلغ قصده في حياة المخاطبين، وسنقتصر هنا (لضيق  المجال المخصص للمقال)، على أهم وأبرز ميزتين في الخطاب القرآني، كانتا حسب اعتقادنا واجتهادنا (المتواضع)، كفيلتين بجعله خطابا نموذجيا في التلقي والتبليغ وفي التأثر والتأثير، ويتعلق الأمر بالأسلوب والمضمون.

1 ـ الأسلوب:

ويتمثل في طريقة الجدل وضرب المثل والإعجاز في الإيجاز، وهو ما يجعل الخطاب القرآني دائما مثيرا ومشوقا وحيويا وفاعلا، ويجعل المخاطب طرفا في الموضوع متفاعلا معه، مشدودا إليه، لتعلقه  ببؤرة شعوره. وكمثال على ذلك، نقتصر على ذكر ثلاث حالات فقط على سبيل المثال وليس الحصر، بطبيعة الحال ومحدودية اجتهاد صاحب المقال.

ـ الحالة الأولى: وتتمثل في حوار سيدنا إبراهيم عليه السلام مع الملك الطاغية، الذي قال: {أنا أحيي وأميت} (البقرة/ 250) فأعجزه الله على لسان خليله إبراهيم عليه السلام بقوله: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فيهت الذي كفر} (البقرة / 258) .

ـ الحالة الثانية: تتمثل في دحض حجة المشركين قي قوله: {إنما يعلمه بشر} (النحل / (103) فأفحمهم الله بقوله: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} (النحل / (103) وإجابة الذين قالوا: أبعث الله بشرا رسولا، برده السريع مباشرة: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا} (الإسراء / 03) . وقوله أيضا: {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليه ما يلبسون} (الأنعام / (9) وكذلك إسكات اليهود والنصارى الذين ادعوا أن إبراهيم كان على دينهم  بإجابته المفحمة لهم بقوله: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} (آل عمران / (67) وقوله: {يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون☆ ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} .... (آل عمران (65 / 66) .

ـ الحالة الثالثة: وتتمثل في أسلوب الجدال والنقاش وآداب الخطاب

لكي يكون لشكل الخطاب قيمة وأهمية لدى المخاطب، لا بد أن يكون له مضمون جيد في محتواه، يعكس قيمة الخطاب والمخاطب والمتكلم ومستواه، ويحدد أهدافه ويوضح دعواه، ومن هذه الناحية، يمكن أن نقول بأن مضمون الخطاب الإسلامي هو مضمون إنساني بكل الأوصاف والمعاني، كما يتمثل ذلك في حالات وقوفه مع الضعيف ضد القوي المتجبر، ومع الحق ضد الظلم والباطل، ومع الصلاح ضد الفساد، ومع الصالح العام ضد الصالح الخاص، ومع العلم ضد الجهل، ومع الاعتدال ضد الإفراط التفريط، ومع الخير ضد الشر، ومع الحرية ضد الإكراه والجبر.
في حوار النبي ﷺ لأهل الكتاب من وفد نجران وإعجازهم بطلب المباهلة التي امتنعوا عنها، ثم مخاطبتهم بأسلوب رفيع المستوى بديع المحتوى، بقوله اللين والمقنع وغير الجارح لهم بقوله: {قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون} (سبأ / 25) هنا نجد الارتفاع بالخطاب الإنساني إلى القمة في النص القرآني، بهذا النوع من الأسلوب في الجدل الذي يهدف إلى كسب عقل المخاطب وقلبه مثل  قوله  أيضا: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} (سبأ / (24)، فلا يفترض النص القرآني النقص في الخصم، مع أنه في الحقيقة يعرف من هو على هدى ومن هو على ضلال، وكذلك في قول الله تعالى لموسى وهارون: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} (طه / 44_43)، فهذا الأسلوب يثبت نجاعته الفائقة في وضع المتكلم موضع الندية والمساواة مع المخاطب، دون إشعاره بالدونية أو الاستعلاء، هذا هو الأسلوب الرفيع الذي يعد الخصم المخاطب على حق حتى يثبت باطله، كما هو واضح في الآيتين السابقتين (سبا / 24 .25)

علما أن المتكلم هنا إذا أسند الإجرام إلى نفسه بصريح العبارة، فلا يعني هذا بالضرورة أن عمل المخاطب لا يتضمن إجراما، وذلك لأن العمل كما أسلفنا هو قول باللفظ، وفعل بالجوارح، وكلا النوعين من العمل يحتمل الخيرية والشريعة في الوقت ذاته، بدليل قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (الزلزلة / 8.7) .

ومن هنا، نجد عبارة "الإجرام" المسندة للمتكلم، مختلفة في الشكل مع العمل عن العبارة المحايدة المسندة للمخاطب، ولكن كلا العبارتين في الحقيقة متساويتان في المضمون بطريقة غير مباشرة، وهذا هو الأسلوب المطلوب في الخطاب التبليغي الجذاب، المفضي إلى الإقناع بالحق واللين والمنطق الصواب!!

إننا هنا نجد نموذجا رائعا لأسلوب الارتقاء بالخطاب الدعوي والتبليغي للوصول إلى قلب المخاطب، وترغيبه في موضوع الخطاب وجذبه إليه وتشويقه وجعله طرفا فيه، أو على الأقل تحييده قبل اتخاذ موقف سلبي منه دون فهمه وإدراكه، وهو المعنى الذي نستشفه بكل وضوح أيضا في محتوى الآية الكريمة من قوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} (التوبة / (6)، وهنا في هذه الآية نجد تكاملا وامتزاجا رائعا في الخطاب بين السلوك العملي والقول اللفظي، فالإجارة خطاب سلوكي والكلام خطاب قولي، وإن نجاح الخطاب الثاني متوقف إلى حد بعيد على نجاح أسلوب تقديم الخطاب الأول.

وإن من أمثلة فصل الخطاب في القرآن الذي أسميناه بالإعجاز في الإيجاز، نذكر كأمثلة فقط قوله  تعالى: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر} (البقرة / 258) و{لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء / (82) و{قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا} (الإسراء / (93) . و{قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون} (يونس/ 16) و{ما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده} (آل عمران / (65) .

وهذه الخصائص المميزة للخطاب القرآني النموذجي في الأسلوب والمضمون معا، تلخصها لنا عمليا الآية القاعدة الشاملة الجامعة الضابطة الموجهة الاآمرة بقوله تعالى: {وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل / 125) .

هذا  باختصار إذن ما يتعلق بالأسلوب في الخطاب الإسلامي، النموذجي القرآني، وهو ما أطلقنا عليه صفة الشكل أو الإطار أو الإناء، ولكن لكي يكون لشكل الخطاب قيمة وأهمية لدى المخاطب، لا بد أن يكون له مضمون جيد في محتواه، يعكس قيمة الخطاب والمخاطب والمتكلم ومستواه، ويحدد أهدافه ويوضح دعواه، ومن هذه الناحية، يمكن أن نقول بأن مضمون الخطاب الإسلامي، هو مضمون إنساني بكل  الأوصاف والمعاني، كما يتمثل ذلك في حالات وقوفه مع الضعيف ضد القوي المتجبر، ومع الحق ضد الظلم  والباطل، ومع الصلاح ضد الفساد، ومع الصالح العام ضد الصالح الخاص، ومع العلم ضد الجهل، ومع الاعتدال ضد الإفراط والتفريط، ومع الخير ضد الشر، ومع الحرية ضد الإكراه والجبر.

وتحديد معنى الخيرية النسبية، والحرية في اعتقاد الناس وأعمالهم، يقيدها الخطاب الإسلامي بمدى فائدتها للناس ونفعها لهم ككائنات حية، ومخلوقات عاقلة شاكرة أو كافرة وبقطع النظر عن الديانات والألوان والأجناس والقرابات العائلية والطبقات الاجتماعية (..).

وإذا كان اهتمام الإسلام بالأموات وبالحيوان والنبات ثابتا (كما هو معلوم)، فمن باب أولى وأحرى اعتناؤه بالإنسان كإنسان، ويتجلى ذلك في تكريم بني آدم ميتا أو حيا، مؤمنا أو كافرا، وتحريم الاعتداء والظلم من أي إنسان على أخيه في الإنسانية، إلا بالحق المحدد شرعا وعرفا، وسواء كان هذا الإنسان قريبا أو بعيدا عدوا أو صديقا، جارا أو صاحبا، صغيرا أو كبيرا، غنيا أو فقيرا، عالما أو جاهلا، أميا أو قارئا، مؤمنا أو كافرا.

وكمثال على ذلك قوله تعالى في مجال الأخلاق الاجتماعية: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة / (21) و{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها النساء} (١)، و{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم (النساء / (174)، و{يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم}، (يونس / (57)، والملاحظ أن خطاب الربوبية موجه دائما للناس، كما يتمثل في قوله السابق: (يا أيها الناس) وليس (يا أيها الذين آمنوا) أو (يا أيها الذين كفروا).

وإن في وجوب الصدقة من الغني للفقير والمسكين، ووجوب العطف والعون من القوي والكبير على الضعيف والصغير، وتحريم أكل اموال الناس بالباطل، وسرقة الناس وظلم الناس، وتحريم ارتكاب الفاحشة، كفاحشة من الناس على كل الناس، وتحريم قتل النفس بغير حق من الناس على كل الناس، كما هو واضح في قوله تعالى: {ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا}، (المائدة / (32) ولا جدال في أن كلمة الناس هنا تعني جنسا واحدا عند الله هو جنس الإنسان، يتلخص هذا الخطاب الإنساني في أسمى المعاني في قوله تعالى: {وأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر} (الضحى (109).

من صور هذا التدرج الحكيم والتسلسل القويم الذي يتماشى مع الفطرة الإنسانية للعقل السليم، الاعتناء بالضعيف قبل القوي، وبالصغير قبل الكبير، وبالمريض قبل المعافى، وكذلك العطف على الوالدين ومعاملتهما بالمعروف حتى ولو كانا كافرين، ومراعاة حق الجار في الجوار ولو كان من الكفار، ومثله أيضا تحريم السرقة والكذب والزنا، واستبشاعه شرعا وأخلاقا، واعتباره من الكبائر في ذاته بقطع النظر عن الفاعل والمفعول.
ومن صور هذا التدرج الحكيم والتسلسل القويم الذي يتماشى مع الفطرة الإنسانية للعقل السليم، الاعتناء بالضعيف قبل القوي، وبالصغير قبل الكبير، وبالمريض قبل المعافى، وكذلك العطف على الوالدين ومعاملتهما بالمعروف حتى ولو كانا كافرين، ومراعاة حق الجار في الجوار ولو كان من الكفار، ومثله أيضا تحريم السرقة والكذب والزنا، واستبشاعه شرعا وأخلاقا، واعتباره من الكبائر في ذاته بقطع النظر عن الفاعل والمفعول، من حيث إيمانه وكفره كإنسان، مع مراعاة دوافع الغريزة البشرية في التسوية بين الجنسين في العقاب، والمنع والردع، للحفاظ على الأعراض. وتفادي انتشار الأمراض، واختلاط الأنسال والأنساب بين البشر للحؤول دون تفكيك روابط الأسر، بارتياب الناس في أنسابهم وأنسالهم،  بما يميزهم من فضائل وخصائص أخلاقية إنسانية، تسمو بهم عن كل الكائنات غير العاقلة بتقديرهم وتقديسهم لمفهوم الشرف قبل البحث عن العلف!!

وفي هذا الإطار أيضا، يدخل تطبيق مبدأ المساواة في العدل بين الناس بصريح العبارة الواردة في الخطاب الرباني القائل: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} (النساء / (58) ، ويلاحظ أنه لم يقل بين المسلمين أو بين المؤمنين، وإنما قال بين الناس، ويتمثل هذا العدل السماوي الإنساني في عدم تحمل أي نفس وزر أخرى، لا في الدنيا ولا في الأخرى، وأوضح ما يظهر في هذا العدل المطلق الذي لا يحول دونه مال قارون أو جاه فرعون وسطوته، ولا نبوة أو بنوة نوح وصحبته، حيث لم يشفع الله لابن نوح بالنسب، ولا لامرأته بالحسب، ولا تحملت امرأة فرعون وزر زوجها بالصحبة واللقب، ولا عوقب سحرته على طاعته بتلبية  الطلب.

فكل واحد منهم نال جزاءه بالعدل والقسطاس على ما كسب وما احتسب!!

وإن الأمثلة في القرآن والسنة على الحالات التي يتجسد فيها الخطاب الإسلامي في كل هذه المجالات والحالات، لهي أكثر من أن تحصى وتعد في كل الأقطار والمجتمعات على امتداد وجود الإنسان وسماع الآذان، وإن إقبال الناس على الإسلام من كل الأجناس والأقوام بعد التعرف على حقيقته من خلال سلوك بعض الدعاة من أبنائه، لدليل قاطع على جوهر إنسانية الخطاب الإسلامي في ذاته، كما عبر عنه الكثير ممن اعتنقه بعد فهمه الصحيح من أهله، ومنهم ذلك الزعيم الأمريكي (البلالي) المهتدي، الذي صرح إثر عودته من تأدية فريضة الحج سنة 1964 وهو (مالكوم إكس)، أنه لأول مرة في حياته شعر بكل صدق أنه إنسان كامل الحقوق والواجبات، ولا فرق بينه وبين أي إنسان ذي سحنة مغايرة لسحنته، إلا في درجة الإيمان بربه في قلبه والصدق والتقوى والإحسان في عمله، ولقد لمس في الميدان قول الله تعالى في القرآن (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وهي التقوى التي قربت ووحدت قلوب كل من بلال وصهيب وسلمان، وجعلتهم من آل البيت في الصالحين، وأبعدت أبا لهب في الغابرين، دون أن يشفع له لون أو دم أو جاه أو قرابة من رسول الله ﷺ أمام بلال الحبشي، العبد التقي النقي الأبيض النفس والعقل والقلب السليم، وهو يفضل ويقدم على أقرب الصحابة للأذان فوق الكعبة يوم الفتح المبين، دون حرج أو نقص أو استعلاء في الدين، وهو الخطاب الرباني ذو المحتوى والمستوى الإنساني الذي لخصه أحد المهتدين إلى الإسلام من علماء الغرب (المتسمى نصر الدين ديني)، بقوله الحكيم الذي حمد فيه الله الكريم على أن عرفه بالإسلام قبل أن يعرف  سلوك المسلمين (الوراثيين)، اعتقادا وإقرارا منه بأنه لو عرف خطاب بعض المسلمين  وسلوكهم المشين، لنفر حتما من دين الحق المبين.

فهذه المفارقة في الخطاب الإسلامي بين ما في الأذهان وما في الأعيان، وبين نص القرآن وما يجسده بعض المسلمين (الجغرافيين والصوريين) في الميدان من تقصير وإجحاف وغلو وانحراف، واختلال صارخ في الميزان، هي التي تجعلنا نقف قليلا هنا أيضا لتقويم وضعية الخطاب الدعوي الإسلامي في الساعة الراهنة، عبر الساحة الدعوية الإسلامية الحالية في بلادنا الشرقية وفي البلاد الغربية، وللحديث عن أسلوب دعوة البشر إلى دين الحق بالتي هي أحسن، بقية على ضوء هدي القرآن الصالح لكل زمان  ومكان!
التعليقات (0)

خبر عاجل