فيما يُشبه الخطوات المفاجئة، أطلقت السلطات
التونسية منذ ثلاثة أيام سراح
عدد من المساجين وعلى رأسهم رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة السيدة سهام بن سدرين،
وكذلك الإعلامي محمد بوغلاب المحبوس منذ عدة أشهر، والوزير السابق رياض الموخر.
بعض المتابعين من السياسيين والإعلاميين والمثقفين على اختلاف انتماءاتهم تلقوا
هذه الخطوات بابتهاج حقوقي وسياسي، واحتملوا أن تكون مقدمة نحو انفراج قد تكون
السلطة عازمة عليه؛ إما لوعيها بصعوبة المرحلة في بعدها الاجتماعي وما تشهده
البلاد من احتجاجات في عدة مناطق، وفي بعدها السياسي خاصة ما قد يكون للمشهد
السوري الجديد من تداعيات محتملة على الوضع التونسي، وإما بسبب ما ظهر في المدة
الأخيرة من تناول خارجي للشأن التونسي، وكان الخطاب الرسمي التونسي أشار في
مناسبات عدة إلى رفض التدخلات الخارجية في الشأن الوطني.
فهل يذهب فعلا قيس سعيد إلى مصالحة وطنية، وقد تكلم في مناسبتين عن
"الوحدة الوطنية" كضرورة لمواجهة التحديات الخارجية؟
هل يذهب فعلا قيس سعيد إلى مصالحة وطنية، وقد تكلم في مناسبتين عن "الوحدة الوطنية" كضرورة لمواجهة التحديات الخارجية؟
إطلاق سراح المساجين الثلاثة أحدث ردود فعل إيجابية وعلى مستوى واسع بين
سياسيين ومثقفين وإعلاميين باركوا للمطلق سراحهم، وعبروا عن كون
الحرية حقا لكل
المواطنين، داعين إلى إطلاق سراح بقية المساجين من سياسيين وإعلاميين ومدونين ممن
لم تثبت إدانتهم وممن حوكموا خاصة على مقتضى الفصل 54، وهو الفصل الذي يطالب
الحقوقيون والإعلاميون والسياسيون بإلغائه.
حزب حركة
النهضة الذي تعطل نشاطه بسبب غلق مقراته وبسبب غياب أبرز قياداته
في السجن، أصدر مكتبه الإعلامي بلاغا بتاريخ 23 شباط/ فبراير 2025 جاء فيه: "كما تجدّد الحركة دعوتها
إلى إطلاق سراح جميع المساجين السياسيين وفي مقدمتهم الأستاذ راشد الغنوشي، رئيس
مجلس نواب الشعب المنتخب في دورة 2019/2024، ووقف
مسار الاعتداء على القانون والحريات الفردية والعامة".
كما دعا البلاغ
السلطة إلى التراجع عن إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 والعودة إلى المسار الديمقراطي
من أجل الخروج بالبلاد من أزمتها:
"وتؤكد أن حجم الأزمة التي آلت إليها
البلاد يفرض التراجع عن كل الإجراءات غير الديمقراطية وغير القانونية، والعودة إلى
العقل والقانون ودولة المؤسسات، بما يضمن العدالة الاجتماعية والاستقرار السياسي
والاجتماعي لكل التونسيين، دون إقصاءٍ أو تمييز".
وفي رسالته إلى الرئيس قيس سعيد كتبها بصفته
نائبا سابقا لرئيس مجلس النواب الأستاذ راشد الغنوشي، دعا ماهر مذيوب الرئيسَ إلى
إطلاق سراح المساجين السياسيين وعودة المهجرين وطي صفحة التصعيد والانقسام قائلا: "إن القادة العظماء هم من تصنعهم
قراراتهم في اللحظات المفصلية من تاريخ شعوبهم، وإن تونس اليوم لا تحتاج إلى مزيد
من الصراعات، بل إلى خطوة جريئة وعاجلة تعيد الأمل إلى شعبها، وتؤكد أن زمن
الإقصاء والمواجهة قد ولّى، وأن أفقا جديدا من الحوار والوحدة قد بدأ. التاريخ لن ينسى من يسير في درب
المصالحة الوطنية الحقيقية والشاملة، فهل تكون هذه اللحظة لحظة إنقاذ تونس قبل فوات الأوان؟".
الدكتور
رياض الشعيبي، مستشار رئيس حركة النهضة، ورغم عدم اطمئنانه للسلطة فإنه كتب معبرا على
الأرجح عن رأيه الخاص قائلا: "لكن
في عالم
السياسة لا يتأسس الواقع غالبا على ما نحن مقتنعون به، لذلك إذا كانت
خطوات إطلاق بعض
المعتقلين السياسيين تمثل خطوات ممنهجة لإخلاء السجون من كل
معتقلي الرأي والمساجين السياسيين، فلن تجد منا إلا التفاعل الإيجابي".
فهل تكون السلطة
فعلا تنوي معالجة الأزمة السياسية والمصاعب الاجتماعية بعيدا عن القضايا
والملاحقات والتخوين؟ وهل فعلا ستقبل بمحاورة مخالفيها بحثا عن حلول حقيقية لأزمة
يعيشها الناس ولم تعد تقنعهم الخطب والشعارات ولم يعودوا مقتنعين بأداء كل
السياسيين، سواء من سبقوا أو من قدموا أنفسهم بديلا عن الفاشلين؟
الشعوب التي تشقها الصراعات والأحقاد وخطاب التخوين، لا يمكن أن تبني دولة ذات سيادة ولا يمكن أن تحقق تنمية. ولكن بالنظر إلى الواقع، فإن أغلب مكونات "المجتمع المدني" من منظمات وجمعيات وبعض الأحزاب، ورغم انتقادها لسلطة قيس سعيد، فإنها لا تخفي خشيتها من أن العودة إلى المسار الديمقراطي إنما تعني عودة حركة النهضة لصدارة المشهد من جديد، ولذلك فإنهم لا يبالغون في ممارسة الضغط على قيس سعيد ولا ينتظرون منه أكثر من فسح المجال لهم
بالمنطق، ونظريا،
السلطة لا تمتلك أي حلول خارج الوحدة الوطنية، فالشعوب التي تشقها الصراعات
والأحقاد وخطاب التخوين، لا يمكن أن تبني دولة ذات سيادة ولا يمكن أن تحقق تنمية. ولكن
بالنظر إلى الواقع، فإن أغلب مكونات "المجتمع المدني" من منظمات وجمعيات
وبعض الأحزاب، ورغم انتقادها لسلطة قيس سعيد، فإنها لا تخفي خشيتها من أن العودة
إلى المسار الديمقراطي إنما تعني عودة حركة النهضة لصدارة المشهد من جديد، ولذلك
فإنهم لا يبالغون في ممارسة الضغط على قيس سعيد ولا ينتظرون منه أكثر من فسح
المجال لهم في مجالات "تخصصهم" وهي الجمعيات والثقافة، حيث يتلقون الدعم
الخارجي لمواجهة ما يعتبرونه "تطرفا" و"ظلامية"
و"رجعية"، وهي كلها، بنظرهم، من مُنتجات الإسلام السياسي بزعامة حركة
النهضة.
ولعل بعض العقول
السياسية في حزب حركة النهضة، يرون أن إيجاد تسوية مع قيس سعيد أفضل من عودة
الساحة التونسية إلى صداع العراك اليومي في القنوات وفي البرلمان وفي الفضاءات
العامة، حيث لا يكف خصوم الإسلام السياسي عن ممارسة التشويه والتحريض والترذيل
لقادة هذا التيار، خصوم الإسلام السياسي لا يربحون بصناديق الانتخاب، ولكنهم أكثر
فاعلية وأقدر على التأثير والتعطيل.
لم يستطع الإسلام
السياسي حتى الآن "التطبيع" مع المزاج التونسي العام، رغم كل ما قدمه من
تنازلات ومن محاولات تكيّف تشريعي وسلوكي مع هذا المزاج.
وبتوسيع دائرة
التحليل، نجد أنفسنا أمام سؤال حول موقف القوى الكبرى المؤثرة في المشهد التونسي،
هذه حقيقة وليست فرضية، فالعالم كله تحول إلى ما يشبه المركبة الواحدة متعددة
الأجهزة ولكنها كلها مرتبطة ببعضها، فهل ستقبل تلك الدول بعودة البلاد إلى
ديمقراطية رخوة؟ وهل ستقبل بإسلام سياسي يمارس السلطة بأدوات "ضبط"
المشهد كما يُسمح به لكل الأنظمة العربية المتحالفة مع تلك الدول؟ وهل الضغط
الخارجي على أي نظام عربي هو من أجل تجريعه فلسفة الديمقراطية أم هو ضغط من أجل
الابتزاز والترويض لجرّه مذعنا إلى "مشروع التطبيع"؟
x.com/bahriarfaoui1