هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
إن تغيير النظام هو في المقام الأول قضية داخلية، ومن الأفضل تركها لأهل البلد. وهذا لا يلغي قيمة الدعم الخارجي الذي يمثل عاملا محوريا في نجاح تجارب الانتقال ما تناسق مع الإرادة الداخلية للفاعلين المحليين..
لا بد أن نسجل أن "القومية المرتبطة بالجيش" والعسكر مستوردة من تركيا ومن انقلابات "حركة الاتحاد والترقي" القومية التركية وانقلاب 1908/1909.. وقد تضررت الحركات القومية العربية من تقليد تلك الحركة..
يمكن القول ضمن مناخ غير مغرق في التفاؤل وليس محكوما بالتشاؤم، إن الأسابيع القليلة الماضية، منذ هروب الأسد، أسقطت سرديات كبرى كانت مرسخة في الوعي الجمعي، بعضها لدى إخواننا في الطائفة العلوية، وبعضها الآخر في الوعي الجمعي لدى جمهور الثورة..
لطالما اعتقد الطغاة أن سلطتهم لا تُهزم، وأن شعوبهم، مهما انتفضت، ستظل أسيرة الخوف والولاء الزائف. لكن التاريخ أثبت مرارًا أن هذه الأنظمة، مهما بدت قوية، تحمل في داخلها بذور ضعفها. هروب بشار الأسد، كما في هذا السيناريو المتخيل، لم يكن مجرد قرار أناني أو لحظة فرار من مواجهة محتومة؛ بل كان تجسيدًا لانهيار مشروع سلطوي قائم على الخداع والتهديد..
بدت فصائل المعارضة السورية المسلحة التي شاركت في عملية "ردع العدوان" في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، والتي تكللت بإسقاط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، أكثر تماسكا وتوحدا مما كانت عليه منذ عسكرة الثورة السورية عام 2012، والتي انضوت وتوحدت تحت مسمى "إدارة العمليات العسكرية" بقيادة أحمد الشرع الملقب بالجولاني..
ما من شك في أن تاريخ ثورات الشعوب ضد أنظمة الاستبداد والفساد يؤكد أن نجاحها يتحقق بإسقاط النظام وإقامة بديل عنه يحقق العدل ويضمن الحرية والكرامة. وبهذا المعنى فإن الثورة السورية قد قطعت منتصف الطريق بتجاوز مرحلة الهدم إلى النصف الثاني المتعلق بمرحلة البناء..
يستخف البعض عن سابق إصرار وتصميم بالحدث العظيم الذي كُتبت بدايات فصوله في الثامن من ديسمبر/ كانون أول 2024 باقتلاع نظام آل الأسد الذي جثم على صدور السوريين لعقود طويلة وكأنها قرون، وهو في الحقيقة ودون أي مبالغة سيذكر في التاريخ كأعظم حدث في القرن الحادي والعشرين..
تمر سوريا اليوم بمرحلة جد عصيبة، تتطلب معها بناء دولتها الجديدة، عبر إقرار الدستور الجديد، الذي يعبر عن توافقات مختلف الطيف السوري، ثم بناء المؤسسات السياسية، وفقا لمرتبات العملية السياسية التي يفترض أن تهيئ لها الحكومة المؤقتة..
لخص الكاتب والناشر اليساري السوري، المنفي في فرنسا منذ 49 عاما، فاروق مردم بيك المشهد بتدوينة على حسابه على فيسبوك، قال فيها: "باقون على ولائهم للسفّاح الجبان (بشار الأسد) على الرغم ممّا شاهدوه بأعينهم من فظائعه ومن مظاهرات الابتهاج المليونيّة بسقوطه.. ما هو السرّ في العطب السياسي ـ الأخلاقي عند هذا النوع من العرب؟".
تناولت عدّة تقارير في الإعلام الغربي انهيار نظام الأسد بالتحليل والتعليق، وبدا أنّ هناك سردية طاغية في هذه التغطيات والتحليلات التي نقلتها مواقع ومراكز مثل كارنيغي، وبروكينغز، ورويترز، والأسوشياتد برس، وسكاي نيوز، والبي بي سي، وغيرها بأنّ أحد أهم أسباب سقوط نظام الأسد هو تخلّي حلفاء نظام الأسد عنه..
على وقع الصراع المحتدم في فلسطين وفي خضم معركة طوفان الأقصى وما أحدثته من ارتدادات وانعكاسات وخلط للأوراق إقليميا ودوليا وبعد أن ساد اعتقاد أن تطلعات شعوب المنطقة للحرية والكرامة قد قبرت بعد أن تم إخضاعها لعملية كي قاسية للوعي جعلتها تلعن الثورات والحريات والديمقراطية..
وسقط فرعون سوريا، وصار لاجئا سياسيا، فبشار الذي ولد على سرير من دمسق، وآلت إليه ولاية عهد أبيه حافظ الأسد، والذي كان عاقدا العزم على البقاء في حكم بلد تحولت مدنه الى خرائب، وأهله إلى نازحين مشتتين في الأرض، آثر السلامة وفر بجلده، متناسيا أمر "الرسالة الخالدة"..
كان الطريق إلى دمشق قصيرا بشكل مدهش، وسيطرت جماعات المعارضة السورية يوم الأحد 8/12/2024 على دمشق بعد هجوم سريع البرق في جميع أنحاء سوريا. وبعد خمسة عقود من حكم آل الأسد، فقد فتحت الإطاحة به فصلاً جديداً في تاريخ سوريا والمنطقة وصراعات القوى الإقليمية والدولية، وسيؤدي إلى تغيير خريطة موازين القوى في الشرق الأوسط وخارجه. ويقدم هذا السقوط نموذجا لمثل يقول: الدرس المستفاد في الشرق الأوسط هو أن الجهود المبذولة في بلد ما غالبا ما تسفر عن نتائج غير متوقعة في بلد آخر.
منذ سقوط بشار الأسد، وانتصار الثورة السورية في دخول معظم المناطق السورية، والتعليقات لا تتوقف، والنصائح كذلك للسوريين تخرج من كل محب لهم ولثورتهم، أو من كل راكب للموجة، فمن أسوأ آثار السوشيال ميديا أنها حولت كل من في يده موبايل، وفتح قناة على اليوتيوب، أو صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى خبير يلقي بنصائحه في كل شيء..
الثامن من ديسمبر 2024، الساعة الثالثة فجرًا، حيث كان الليل يختنق بصمت ثقيل، والعيون المجهدة تراقب شاشات صغيرة تنقل نبض الثورة. رسائل تتقافز، تغزو غرفنا المعتمة كأنها نذير فجر قادم. هناك، في دمشق، كانت سيارات الثورة تمزق سكون المدينة، تسير كأنها شهب من سماء غضبت أخيرًا..
المسار الانتقالي في سوريا الجديدة طويل وشائك، يحتاج إلى مثابرة وصبر، فهذا نظام جثم على صدور السوريين أكثر من خمسين عامًا، ارتكب خلالها أفظع الجرائم؛ فاعتقل، وعذب، وقتل عشرات الآلاف، ودمر المدن، وهجّر سكانها، وصنع من حاكمها إلهًا، وطوّع القضايا العادلة لخدمة وجوده وتحقيق أجنداته..